في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا

في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا  
  
  


بوح أدبي، قد يغلب فيه البوح فتصدق أحداثه، وقد يغلب فيه الأدب فترسم خيالاته، فلا تسل عن صدقه بل اطلب مشاعره فهي غاية الأدباء ومنتهى كل حال ومآل.

ولعل الكاتب كتب ما يكتب استشفاء فلا تستغرب منه إطالة مكتوبه ونثر همومه.

...  


وحشة المرء تحثه لاقتفاء آثار ما يألف، ألا ترى السقيم يستشفي بتراب وطنه، وليس قول الشاعر:  
(وَلَا بُدَّ فِي أَسْفَارِنَا مِنْ قَبِيصَةٍ  
مِنَ التُّرْبِ نُسْقَاهَا لِحُبِّ الْمَوَالِدِ) عن قولنا ببعيد.

ومع وحشة ضارية - سببها مسطور آخر المكتوب - كالوحوش استحثتني لاقتفاء أثري باحثا عن أثري، وجدتني أقبلت على مرتع لي أيام الصبا والصبابة، حيث كانت الهموم مني سخيفة والآلام علي خفيفة، شواطئ العروس التي تشفي من يستشفي وتزيد من يستزيد.

ظللت أتلمس البقاع، علني أقف على موطن الأنس والإمتاع، فما اهتديت إلى شيء! غريب عني هذا المكان، حاولت اقتفاء الأثر بالاسم عله يدلني على موطن الرسم، فإذا الأسماء أول ما غُيّر!

وقفت مشدوهًا! ألا ليتني شاعرًا فأرثي حالي عند فقد الطلل، كما كان أجدادي يرثون قبلي الطلل!

زمان يوحش، لا طلل أبكيه، ولا رسم أستجليه، غربة مفرطة.

ويزيد هذه الغربة كثرة الترحال، حتى الطلل المفقود ليس إلا محطة في ترحال لا يعلم آخره إلا الله، ولكن كما قال الشاعر:  
( كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى  
وَحَنِينُهُ أبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ) إذن شفائي في أول منزل! فأول الترحال آخره، وأواخر الأمور أوائلها، أما ترى أن الهرم طفولة ثانية؟ وأن الحيرة تقع في طرفي رحلة طلب العلم؟

عزمت مد الرحلة إلى أولها، واقتفاء الأثر إلى آخره، علني أجد طللا أبكيه، فأفصح لي العقل أن أوله ليس بمكان، بل هو المرتحل ذاته، فطلبت نفسي متعللا.

قد ألفيتني رجلا وعر الطبع وإن بدت منه الليونة، متعقلا لا مستشعرا لما حوله، وآهٍ من العقل حين يكلّ في ميادين الوجدان، حاله حال قصّاص أثر استعان به أحمق ليقتفي أثر سفينة قد ضاعت في البحر.

صراع العقل والفؤاد معركة لا خاسر فيها سواي، إن غلب العقل لامني الفؤاد وأنهكني بالأسقام، وإن غلب القلب - وقليلا ما يغلب - عاد علي العقل بصور العتاب والخصام.

كل يوم يخطف مني عقلي الزمان ليجول فيما لا يجد فيه بني الإنسان تساؤلا! مرة في أصل الوجود، ومرة في صفات الرب المعبود - سبحانه وتعالى -، ومرة في منبع الشرور، ومرة في استدامة السرور، ومرة في الحب! ما هو الحب؟ وهذا الأخير طفت به في الأرجاء عل جوابا يبلغ مني حد الارتواء.

ولكن كل من أسأله يتمثل قول الشاعر:  
(وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ  
إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ) فكيف تسأل يا إنسان عما لا يخفى على إنس ولا جان؟! عن الحب تسأل؟ وهل مثله يجهل؟!

ثم ولأول مرة يُسْلم العقل زمام أمر هذه المسألة للحياة وتجاربها، ويصرح بعجزه عنها، متمثلا قول الشاعر:  
(ألم ترَ أنَّ العقل زينٌ لأهلهِ  
وأنَّ تمامَ العقلِ طولُ التجاربِ) التجربة إذن! ميدان الحياة كفيل بأن يجيب عن هكذا سؤال.

ساقتني الأقدار إلى تجربة عنوانها الحب، ويقال أنه نتيجة الحب أو بدايته، سخرت فيها نفسي لأجيب عما أعجزني، وطال أمد المحاولات مني وازدادت في تلك التجربة همومي وأسقامي، فرفيقي فيها غرب وأنا شرق، ولا يقدر مخلوق على الجمع بين الشرق والغرب.

طول العهد على هذه الحال ظلم يأباه المرء على غيره ابتداء وعلى نفسه انتهاء.

فكان ما كان من فصال غايته السلامة، وآلته حسن القول والفعال دفعا للملامة، ولكن العذل سيمة في البشر لا تزول، فانتهض الحساد لعدائي، وبعد إذ كنت خير من ناسب وانتسب أمسيت عدوا يسقط بكل سبيل وسبب.

فعدت من تلك الرحلة بالهم والغم والكدر، وبقيت حيرة الحب على حالها، فما كان مني إلا إنكار وجودها، حالي في ذلك حال الأرمد حين أنكر ضوء الشمس.

وفي ظلمة من ظلمات اليأس، أبصرت نارا فقلت لعلي آتي منها بقبس.

وكما قال سيدنا علي بن أبي طالب فيما نسب إليه:  
(وَكَم لِلّهِ مِن لُطفٍ خَفيٍّ  
يَدِقُّ خَفاهُ عَن فَهمِ الذَكيِّ  
وَكَم يُسرٍ أَتى مِن بَعدِ عُسرٍ  
فَفَرَّجَ كُرْبَة القَلْبِ الشَجيِّ) فقد اهتدى الحيران بغير جهد منه أو اجتهاد إلى الحسناء الشَّهَدِّية.

ساعة وراء ساعة، ويوما بعد يوم، أصبحت متلهفا منها بالوصال! كشف لي هذا الوصال عن نفسي الكثير، مع مرور الزمان بحلوه ومره تجلى لي أمر لم يكن في الحسبان، حاولت صرفه مرة تلو مرة، ثم أيقنت أنه باقٍ لا يدفع، فأعملت عقلي لفهمه فكلَّ واحتار جوابًا، ولشدة حيرتي وحيرته أحلنا أمرنا للمستشار المنسي؛ القلب.  


فكان رده قول القائل:  
(أخفيتُ حبَّك حتى كدتُ من حَذَري  
عليه أُخفيه عن سمعي وعن بصري  
لي في الهوى سِيَرٌ لو أنها سُطِرت  
في الكُتب أغنَت عن الأخبار والسِّيَرِ) إنه الحب أخيرا! دون علمي بحده ورسمه وجدت في قلبي من وصفه ووسمه.

الحب وما أدراني ما الحب... سبب العجز عن تعريفه اتساعه عن أن يحيط به العقل، هو للحياة كالروح للجسد، كأن الحياة رسمت بلا لون ثم أتى الحب فلوّنها، هو سر مكتوم عن غير أهله، يبوح من نفسه لكلٍّ على قدره ومقداره، به يرق الغليظ ويغلظ الرقيق، وبه يجسر الجبان، ويجبن الجسور، وبه يعقل الطائش ويطيش العاقل.

أما اليوم فليس على العقل ملامة، إذ وقف على حد علمه، وكما قيل العجز عن الإدراك إدراك.

أما الشّهدية، فهي مجمع الحسن والكمالات، قد ذلل الله لها كل كمال يرجى نواله، وفيها كل حسن يرجى وصاله.

ليست شاعرة ولا أديبة، ولا عالمة ولا فقيهة، هي هي، وهنا عجب الحب، أن تلك الشهدية بكل بساطتها ملكت مني الفؤاد والعقل!

لم أجد فيها عيبا أذمه كل ما فيها يسر، بل كل ما تتصل به صار يسر، أحببتها وأحببت مكانها وزمانها وأحببت ما تحب وأحببت أنني أحبها.

لعل الجواب كان الحيرة أصلا، أما الآن فقد انقضى التساؤل وتغيرت المسائل، لم أظفر من وصالها بأكثر من صوتها ولمحات لوجهها بلا لقاء ولا اجتماع، فالوصال يحث على الوصال، كعقدٍ أوله إذا انفرط أتى بآخره.

ولا يشفي علة القلب إلا وصالها، بل تمامه لا بعض أجزائه! ولكن دون ذلك مفاوز وصعاب، والزاد قليل والمركوب هزيل.

لم أكن أعلم من نفسي أنني محارب في صفوف الهوى وبنيه، وأنني وإن عُدم عتادي عتيد، أجاهد لنيل ما من الهوى والوصال أريد.

بكل رباطة جأش، عزمت طلب الوصال ضاربا كل الأعراف والعوائد والتقاليد كل الحوائط، فردا بلا زاد ولا عتاد أقبلت على دارها، ليس لي سوى نفسي وأزعم كفايتها.

وحدي أمام أمة جلست، وبلساني شرقت وغربت، وأظهرت عن نفسي وعن كثرة السؤال كفيت، ثم أفصحت عن ما أريد ولأجله أتيت.

كان الجواب بالانتظار والاستخارة، وقريبا بإذن الله تأتي البشارة.

أُخبرت أن حالي قد سرهم أيما سرور، وأن مقالي أغنى عن كثرة السطور.

"يا ابنتي قد قرع الباب رجل يستحقك فتهللي، ولكن علنا نسأل احتياطا فاصبري."

سئل عني فأجاب الكل بما علموا، والحمدلله على ستره وتوفيقه، فما بان عني إلا ما يزيدهم قبولا لي، ولكن... وألف ألف لكن.  


بلغ خبري أذن الواشي الحسود، ونفث بسمومه بحقيقة يتيمة مصحوبة بألف كذبة وخيمة، حتى وقعت في قلب ذوي الشهدية، حاولت دفعها بما تستطيع ولكنها كانت كمن يحاول إخماد حريق بيته بدموعه.

أقفل باب الوصال وحرمت منها المنال، ولكن طبول الحرب استمرت في القرع، وسيوفنا لم تغمد، والرايات ما زالت تحجب السماء.

إن أقفل باب فلعلنا نفتح غيره بابا من الأبواب، كثّرت المحاولات بكل صورة وسبيل حتى بلغ الأمر مبادئي وقيمي، والتي دونها خرط القتاد، ألا قاتل الله هذه الحال!

إما الحب وإما ثمرات العقل وأسس القلب، ووالله لست رجلا يعود عما اقتنع به بعد طول نظر وفكر.

أقفل بابهم أخيرا بلا رجوع، وعدت منهم والقلب موجوع.

فأضحيت كما قال الشاعر:  
(طافَ الوُشاةُ بِهِ فَصَدَّ وَأَعرَضا  
وَغَلا بِهِ هَجرٌ أَمَضَّ وَأَرمَضا  
وَالحُبُّ شَكوٌ ما تَزالُ تَرى بِهِ  
كَبِداً مُجَرَّحَةً وَقَلباً مُحرَضا  
وَبِذي الغَضا سَكَنٌ لِقَلبِ مُتَيَّمٍ  
حُنِيَت أَضالِعُهُ عَلى جَمرِ الغَضا) وما عزائي إلا أن حبيبي لم يصدق كذب الوشاة وأخبارهم، وأنه ظل عن أقوالهم يواسيني.

الفؤاد يطلب دوام الوصال، والعقل يعقلني عما ليس إليه منال.

أزمعنا الفراق، وحددنا موعده بعد أسبوع من انغلاق آخر باب، كنا خلاله نتناسى الرحيل، ونعيش أيامنا فيه على ومضات الوصال القليل.

مما يزيد الفراق ألما أنه فراق لا وصل بعده، لا دنيا ولا آخرة، أنه فراق محب لمحب لا يعيب أحدنا في الآخر شيئا، وإن حاول استحضار عيب يخفف عنه لم يجد سوى ما يزيد الفراق حرقة، كأننا - من شدة الاتساق والالتصاق - جديلتا حبل تفرّق عنوة.

مال القلب إلى الهجر دون توديع، لأنه لا يقوى على الفراق، ومن ذا الذي يقوى عليه؟! وتمثل قول الشاعر:  
(إني لأجبن عن فراق أحبتي  
وتحس نفسي بالحمام فأشجع) ولكن ما بيننا لا يهجر، وإن كانت ساعة الفراق.

في ليلة لا بدر فيها، بدأ الوصال السابق للانفصال، والله أن الزمان فيها انطوى، فساعة يتسع وساعة ينحصر، قالت فيها: "أحبك" وفي قولها انطوت الأيام والسنين، وفي لحظة واحدة سمعتها ألف ألف مرة! سمعت كل مرة، وصال ما بين بكاء وتجلد وضحك حتى، أخبرتها أنه لو كتب لي أن أعود في زمان لا أعرفها فيه، لاخترت أن أعرفها مرة أخرى وإن آل إلى الفراق، أخيرا سألت حبيبة قلبي الشهدية: " هل عرفت الحب؟ "

فأجبتها: "إي والله أنني عرفته، والآن أريد معرفة سبيل العيش بدونه!"

وحالنا كما قال الشاعر:  
(لو كنت ساعة بينِنِا ما بينَنَا  
فشهدت حين نكرر التوديعا

أيقنت أن من الدموع محدثا  
وأن من الحديث دموعا) في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا تم الأمر، وفاضت الروح - أو كادت - مع آخر مرة قيلت... "أحبك".

وخاطب العقل قلبي قائلا:  
(أيتها النفس أجملي جزعا  
فإن الذي تهابينه قد وقع) ولكنها لم تجمل.

كم مرة زارني طيفها بعد الفراق، أنتبه من نومي راجيا أنها ضعفت وعادت للوصال، أن قلوبنا تنتصر وتسكت العقول الجامدة المتحجرة، ولكن سرعان ما يكمم قولي العقل بالمنطق والبرهان.

أقول كما قال الشاعر:  
(أَلا إِنَّ قَلبي مِن فِراقِ أَحِبَّتي  
وَإِن كُنتُ لا أُبدي الصَبابَةَ جازِعُ  
وَدَمعِيَ بَينَ الحُزنِ وَالصَبرِ فاضِحي  
وَسِتري عَنِ العُذّالِ عاصٍ وَطائع)

فراق الحبيب ليس مجرد تفرق شخصين، بل هو فراق كل شيء، فبعدها لابد أن أفارق الزمان الذي جمعنا، والأماكن التي فيها تواصلنا، الروائح، والأصوات، وكل شيء أشرقت عليه شمس وصالنا... حتى أنا، لابد أن أفارق نفسي التي أحبتها.

هذا بوح لأمر قد تم، زمانه وأشخاصه، بل ودقة أخباره تطوى ولا تروى إلا بما أفصحت عنه، سقى الله أيام الشهدية.

وقاتل الله الفراق ووحشته.  


كتب على شاطئٍ خلوٍ من البشر، في ليلة غاب فيها كل شيء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وميض

ما أشبه النهايات بالبدايات