المشاركات

عرض المشاركات من أغسطس, ٢٠٢٣

ما أشبه النهايات بالبدايات

    بداية الحياة ضعف الطفولة، ونهايتها وهن الشيخوخة، بداية طلب العلم علمٌ بالجهل، ونهايته يقين بالجهل، بداية السلوك حيرة، ونهايته حيرة...   لعل في الأمر إشارة إلى أن الدوران هو أكبر أنماط الوجود، الكل يدور في فلك واحد، وحول هذا الفلك تتعدد الأفلاك بتعدد الناس والأحداث، كل فصل في حيواتنا دورة في فلك ما، للعلاقات أفلاك، وللأفراح أفلاك، وللأتراح أفلاك وهكذا.   العجيب أننا لا نعي تكرر الأمور إلا بعد تعاقب الدورات مرات تلو مرات، ومع ذلك فإننا في بداية كل دورة نعود بأنفسنا حيث بدأنا، إما قلق وتخوف، أو حماس وإقبال، أو حيرة وتخبط، الثابت أننا نرتدي زيًا موحدًا لنستقبل به كل دورة جديدة.   بعد انقضاء فصل من فصول الحياة، أول ما يتبادر للذهن شوق وحنين لما انتهى قبل لحظات، شوق لما ألفته الأنفس وإن كان يسوؤه ما يسوؤه، ثم بعد الشوق -إن كان الفصل السابق جميلا- يغطي عينك سواد مقتم متجسد في تساؤلات من قبيل: هل سأحظى بربع ما حظيت به في ذلك الفصل؟ هل في الوجود شبيه لذلك الفصل؟ كيف سأعيش حياتي بعد انقضاء هذا الفصل؟ وغيرها مما يكدر الخاطر وتتسم به بدايات الدورات الفلكية، ثم ما إن تتفاجأ بأنك

سؤال الحزن

أما الحزن فإنه من أصدق المشاعر، ولعلي أعجز عن تبيان معنى الصدق هنا بشكل فلسفي، ولكنني سأنثر ما لدي بين أيديكم لعل في ذلك جوابا كافيا. أجد الحزن في الفن بكل أضرابه سهل المحاكاة، لا يحتاج لكثير تكلف، ففي الموسيقى تجد المقطوعات المُشعرة بالحزن -خلق الشعور في المتلقي عنوة هو غاية الفن عندي- تسود على غيرها، ويتسرب فيها الشعور بالحزن بين نغماتها إلى المتلقي بسلاسة رهيبة! مقطوعات شوبان الحالمة ووتريات باربر ومقطوعة الرحلة لمارك إليياهو وبالتأكيد مون لايت سوناتا لبيتهوڤن، وغيرها الكثير والكثير والكثير... وفي أغاني كوكب الشرق أم كلثوم وحدها ما يؤكد أصالة الحزن واشتقاق كل شيء منه، ففي أغانيها "حب إيه" و"لسى فاكر" من الحزن والأسى ما يذيب الجبال، وفي مبعث الآلام ومجلى الأحزان "الأطلال" ما يوقظ في القلب كل دواعي الحزن.   ولسنا هنا بصدد استيعاب أحزان الفنون، وحسبنا في هذا المقام الإشارة وكفى.   أما ذروة سنام الحزن هو ما جرى على ألسن أئمة المشاعر؛ الشعراء! ويلٌ لنا من الشعراء. أما يكفيك أنهم اتخذوا من الحزن وحده بابا يلجون منه لغالب أشعارهم، فلا يكاد يبدأ أحدهم إلا ويذكر

بواب بهو العظماء

    برج لا يرى منه إلا قاعدته، ضارب في الأرض كما هو ضارب في السماء، يقال أن قمته في السماء الرابعة حيث الحكمة والعلوم المكنونة والمكشوفة، داخل البرج يكمن مبلغ آمال كل فنان وعالم، فيه أقرب ما وصل إليه البشر من مادة الخلود...   بهو العظماء، مكان يودع فيه كل عظيم عظمته في فنه أو علمه، تجد فيه كرم حاتم الطائي، وشجاعة عنترة، وبلاغة جاحظ، ونظر الفخر الرازي، ونظريات آينشتاين، ومقطوعات موزارت، ولوحات دافنشي، والكثير مما حاز الخلود، درجات هذا البهو لا يعرفها على وجه الدقة إلا من دخله، فكلٌّ يدرك بحسبه، ولا يعرف درجات العظمة إلا من ذاق طرفا منها.   يسعى الكثير ليودعوا أعمالهم وتاريخهم في ذلك البهو، كي يخلدوا بها وإن بليت أجسادهم وانقضت أعمارهم، العجيب أن أغلب أهل هذا البهو لم يبالوا به يومًا، بل كانوا وراء علومهم وفنونهم حتى حازوا فيه أعلى المراتب، أما من يسعى وراء البهو يندر أن يدخله...   بهو العظماء في برج البقاء محاط بأسوار عددها يزداد مع زيادة الغثاء، آخر مرة عدّت أسوارها قبل سبعمئة عام كانت عدّتها أحد عشر سورًا، واليوم لا يعلم عدتها إلا من يجاوزها كلها، وقليل ما هم، في كل سو

لعنة الوعي والوعي باللعنة

    مع تحفظي على استعمال كلمة اللعن بمشتقاتها لسبب سيتبين لك آخر المكتوب فإنني مؤمن بما يسمى بلعنة الوعي.   ما هي هذه الظاهرة؟ لعنة الوعي يا صديقي الواعي هي الوعي باللعنة؛ وما أقصده هو وعي الإنسان بقصور تأثيره على ما حوله، بل بعجزه عن التحكم بنفسه حتى. يكبر الإنسان وله من الأحلام ما يضاهي سذاجته، ومعافسة الحياة تستبدل سذاجته ببدائل متعددة من السلبية أو الواقعية أو الانهزامية أو غيرها... خلال المرحلة الانتقالية في حياة الإنسان من الطفولة إلى ما بعدها من أطوار ترمي الحياة في وجهه ما يصدمه ويخالف توقعاته عن الحياة وعمن حوله وعن نفسه.   أن تكون واعيًا بأن العالم لا يريد لك الخير بالضرورة، وأن كل من تراه يحتمل أن يكون شريرًا لا يكن لبني جلدته إلا الشر، أن تعي أنك إن وجدت نفسك يومًا ما في موطن سلطة لا تساءل عنها قد ترتكب ما تستبشعه اليوم من أفعال، أن تعي أن العالم مملوء بالمظلومين، وأن في منازل جيرانك من القصص ما كنت تظنه أندر من الكبريت الأحمر، أن تعي أن بواطن البشر غالبًا أقبح من ظواهرهم، أن تعي أن بشر تنطبق عليك في جوهرك كل ما تعيه عنهم. أن الخير لا ينتصر دومًا في هذه الدار،