المشاركات

ابنة الملوك اقتيدت أمَةً لأقبح قومه

لطالما كان المال يبذل لأجل الفن، فتجد السلاطين والملوك يدفعون الأموال الطائلة لتحصيل قطعة فنية، أو لقاء قصيدة حوت ذروة الفن. وهذا - من رأي أفقر الورى - نابع عن طبيعة الفن، وهي تجسيد الجمال، والجمال أمر عسير الضبط فهو حاله حال الحب أمر ضروري في الإنسان، يداهمك حين يداهمك. أفلاطون؛ أي أرستوكليس بن أرستون - وألف نعم - بنى نظرته للوجود على فكرة عالم المُثُل، ومفادها بإيجاز كلها خلل أن أصول الموجودات متعالية عن المادة مجردة عنها، وكل ما نشاهده من محسوسات ما هو إلا انعكاسات للمُثُل، بل حتى تجليات المعاني غير المحسوسة من جمال وحب وعدل وشجاعة وغيرها. وفي سلك هذه الدعوى [=أي دعوى عالم المُثُل] يفصح أفلاطون في محاورة المأدبة أن الجمال هو أشد المثل ظهورا وانكشافًا للعيان، وظهوره هذا يقصد به حصول معنى الجمال في النفس عند شهود بعض المحسوسات. ثم يزيد أفلاطون في محاورة فايدروس بما يفيد أن الجمال هو الباعث في البشر للتعالي على العالم المحسوس وطلب عالم المثل؛ ذلك لأن الجمال يجذب الإنسان عنوة، ومع سطوته العظيمة هذه فإنه لا يمكن وصف ما جعل الجميل جميلًا. هذا الدافع الفطري دعا البشرية أن تبذل الغالي والنف

قبيلة الفقهاء والأدباء والظرفاء

يدندن معشر الأطباء بكل سخف وسذاجة أن الإنسان يولد مرة واحدة فقط! وهذا قول لا يصدر إلا عن أعور لا يرى إلا القشور. ولو أردت تعريف الإنسان تعريفًا لقلت أنه: مخلوق متعدد الحيوات. ولكل واحدة منها ولادة ووفاة، وهذا الموضوع مما يستحق أن يطال فيه النفس لاستخراج درره ويواقيته. ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق. منذ ولادتي - في حياة من حيواتي - وجدتني نهمًا لاقتناء الكتب، أتكلف في ذلك أشد الصعوبات رغم عسر الظروف مادّيّها وغيره، فمعارض الكتاب كانت عندي عيدًا بحق! يسبقها ما يسبق العيد من التجهز والاهتمام لأمر المال، وفيها نلتقي بالأحبة والأصحاب، وبعدها نفرح بما عدنا به ونحزن لمن فارقناه. ثم زاد الأمر إلى السفر أسفارا محلية قصيرة وأخرى خارجية طويلة لاقتناء ما لذ وطاب من الكتب، وأخيرا على مر السنين وبعد كل هذا تكونت عندي مكتبة جيدة لطيفة، فيها تنوع لا بأس به، ومختارات في شتى العلوم والحمدلله. من يقرأ إلى هنا سيتساءل أي علم حصّله كاتب هذه السطور بعدما جمع وأوعى؟ وفي أي ضروب العلم ألف ودرس؟ والحقيقة المرّة أنني خالِ الوفاض حقا لا تواضعا باردا، لم أقرأ ربع ما اقتنيت، ولم أحط بربع ما قرأت. أبعد كل هذ

في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا

في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا         بوح أدبي، قد يغلب فيه البوح فتصدق أحداثه، وقد يغلب فيه الأدب فترسم خيالاته، فلا تسل عن صدقه بل اطلب مشاعره فهي غاية الأدباء ومنتهى كل حال ومآل. ولعل الكاتب كتب ما يكتب استشفاء فلا تستغرب منه إطالة مكتوبه ونثر همومه. ...   وحشة المرء تحثه لاقتفاء آثار ما يألف، ألا ترى السقيم يستشفي بتراب وطنه، وليس قول الشاعر:   (وَلَا بُدَّ فِي أَسْفَارِنَا مِنْ قَبِيصَةٍ   مِنَ التُّرْبِ نُسْقَاهَا لِحُبِّ الْمَوَالِدِ) عن قولنا ببعيد. ومع وحشة ضارية - سببها مسطور آخر المكتوب - كالوحوش استحثتني لاقتفاء أثري باحثا عن أثري، وجدتني أقبلت على مرتع لي أيام الصبا والصبابة، حيث كانت الهموم مني سخيفة والآلام علي خفيفة، شواطئ العروس التي تشفي من يستشفي وتزيد من يستزيد. ظللت أتلمس البقاع، علني أقف على موطن الأنس والإمتاع، فما اهتديت إلى شيء! غريب عني هذا المكان، حاولت اقتفاء الأثر بالاسم عله يدلني على موطن الرسم، فإذا الأسماء أول ما غُيّر! وقفت مشدوهًا! ألا ليتني شاعرًا فأرثي حالي عند فقد الطلل، كما كان أجدادي يرثون قبلي الطلل! زمان يوحش، لا طلل أبكيه، و

الصور والثورة على الإنسانية

أنا - وبالنسبة لرجل يدعي كره الحديث عن النفس فإنني أكثر البدء بـ: أنا - بطبعي لا أحب كثرة الصور، يندر جدا أن أمر بلحظة أشعر فيها بضرورة التقاط صورة لها، إلا ما كان للمشاركة المباشرة، أما التصوير لأجل التخليد فلست من أهله، بل إنني أعتبره ثورية على طبيعة الإنسان، كيف ذلك؟ جُبل الإنسان على النسيان - كما نقل عن حبر الأمة رضي الله عنه -، وطبيعة ذلك أن مخزن الذكريات انتقائي في حفظه، فليس كل مشهد يحظى بنفس الزمان في الذاكرة، ولا كل شعور ارتبط بحدث راسخ كغيره من المشاعر. تلك الانتقائية غيبية الترتيب هي ما تيسر لذلك المخلوق العاجز خوض غمار الحياة، أن يتجاوز الحدث بنفسه وبذاكرته، ألا يعيش الموقف المؤلم مكررا عليه في ذهنه ألف مرة. ولولا هذا النسيان لما حصل التجاوز، ولولا التجاوز لما تعددت المشاعر، فالمشغول لا يشغل؛ بمعنى أن من ابتلي بالحزن فالحزن قسمته حتى يهلك، وهذا والله هو الجحيم. ثم قرر الإنسان كعادته أن يثور على أحكام الطبيعة، ناسيا - أو متناسيا - دور ما يعتريه من عجز في تسهيل الحياة، فاستحدث لنفسه أداة لتخليد الذاكرة، أو على الأقل مظهرها! وهي الصور، أن يطل الإنسان على مشهد - حقه الطبيعي أن

وميض

  قيل قديمًا "أشأم من طويس" بيانًا لشدة الشؤم، وفي حالتي فيصح أن يقال: "أكأب من وميض"، أنا وميض.   أكتب لكم اليوم قصتي مستعجلًا قبل أن تغلبني الكآبة واليأس فيخرّ عزمي ويتفلت قلمي.   وميض، اسم سمّاني إياه والدي متفائلًا بوميض البروق الواشية بالمطر والخيرات، اسم على مسمى، لطالما كانت حياتي عبارة عن ومضات، ومضة تلو الأخرى، حالي كحال السماء الممطرة، سواد قاتم تتخلله بعض الومضات، ولكن لأنني ابتليت بكوني إنسانًا فإن كل ومضة تقبل أتمسك بها وأخالها ستدوم ولكأنها الشمس بعد انقشاع الغيوم، ثم ما إن ألفظ مظلتي وأفتح نافذتي مستقبلا أشعة الشمس التي أمِلتُها إلا لأفاجأ بأن الظلام الدامس حل مجددًا.   مقدمة تبعث على الكآبة، نعم بلا ريب، فكما يقول المثل -الذي ابتكرته أنا-: "أكأب من وميض". ثمانية وعشرين عامًا مضت، نبدأها من الطفولة.     ...   عندما كنت في الحادية عشر من عمري بدأت رحلتي مع فرط التفكير، كان سؤال مثل: ما هي مادتك المفضلة يثير حيرتي وأظل أتأمل فيه لأسابيع حتى أصل لجواب مقنع لنفسي أولا ولغيري، ولكن مشكلة فرط التفكير ليست هنا، بل في أن مفرط

ما أشبه النهايات بالبدايات

    بداية الحياة ضعف الطفولة، ونهايتها وهن الشيخوخة، بداية طلب العلم علمٌ بالجهل، ونهايته يقين بالجهل، بداية السلوك حيرة، ونهايته حيرة...   لعل في الأمر إشارة إلى أن الدوران هو أكبر أنماط الوجود، الكل يدور في فلك واحد، وحول هذا الفلك تتعدد الأفلاك بتعدد الناس والأحداث، كل فصل في حيواتنا دورة في فلك ما، للعلاقات أفلاك، وللأفراح أفلاك، وللأتراح أفلاك وهكذا.   العجيب أننا لا نعي تكرر الأمور إلا بعد تعاقب الدورات مرات تلو مرات، ومع ذلك فإننا في بداية كل دورة نعود بأنفسنا حيث بدأنا، إما قلق وتخوف، أو حماس وإقبال، أو حيرة وتخبط، الثابت أننا نرتدي زيًا موحدًا لنستقبل به كل دورة جديدة.   بعد انقضاء فصل من فصول الحياة، أول ما يتبادر للذهن شوق وحنين لما انتهى قبل لحظات، شوق لما ألفته الأنفس وإن كان يسوؤه ما يسوؤه، ثم بعد الشوق -إن كان الفصل السابق جميلا- يغطي عينك سواد مقتم متجسد في تساؤلات من قبيل: هل سأحظى بربع ما حظيت به في ذلك الفصل؟ هل في الوجود شبيه لذلك الفصل؟ كيف سأعيش حياتي بعد انقضاء هذا الفصل؟ وغيرها مما يكدر الخاطر وتتسم به بدايات الدورات الفلكية، ثم ما إن تتفاجأ بأنك

سؤال الحزن

أما الحزن فإنه من أصدق المشاعر، ولعلي أعجز عن تبيان معنى الصدق هنا بشكل فلسفي، ولكنني سأنثر ما لدي بين أيديكم لعل في ذلك جوابا كافيا. أجد الحزن في الفن بكل أضرابه سهل المحاكاة، لا يحتاج لكثير تكلف، ففي الموسيقى تجد المقطوعات المُشعرة بالحزن -خلق الشعور في المتلقي عنوة هو غاية الفن عندي- تسود على غيرها، ويتسرب فيها الشعور بالحزن بين نغماتها إلى المتلقي بسلاسة رهيبة! مقطوعات شوبان الحالمة ووتريات باربر ومقطوعة الرحلة لمارك إليياهو وبالتأكيد مون لايت سوناتا لبيتهوڤن، وغيرها الكثير والكثير والكثير... وفي أغاني كوكب الشرق أم كلثوم وحدها ما يؤكد أصالة الحزن واشتقاق كل شيء منه، ففي أغانيها "حب إيه" و"لسى فاكر" من الحزن والأسى ما يذيب الجبال، وفي مبعث الآلام ومجلى الأحزان "الأطلال" ما يوقظ في القلب كل دواعي الحزن.   ولسنا هنا بصدد استيعاب أحزان الفنون، وحسبنا في هذا المقام الإشارة وكفى.   أما ذروة سنام الحزن هو ما جرى على ألسن أئمة المشاعر؛ الشعراء! ويلٌ لنا من الشعراء. أما يكفيك أنهم اتخذوا من الحزن وحده بابا يلجون منه لغالب أشعارهم، فلا يكاد يبدأ أحدهم إلا ويذكر