بين ابن عطاء الله السكندري ولاو تسي

الخير حق، والحق لا يزول بالباطل، أقصى فعل الباطل بالحق حجب الناس عنه أو تشوهه لهم.

نور الحق قد بلغ أرجاء البشرية، فلم يترك كهفا إلا وقد نوره، ومن تأمل في تاريخ بني البشر وجد فيه ومضات متعددة ومتفرقة، تجتمع على بث الحكمة وانقياد الناس لهم لفضائلهم لا لسطوتهم.

وكل خير أصله واحد ولا ريب، وهو الحق سبحانه وتعالى، أرسل رسله وهدى خلقه، ولا نعلم من الأنبياء إلا النزر اليسير جدا، فأغلب الأنبياء غير معروفين لنا، ولكل أمة نبي رحمة وهداية.

لذلك فإن نظريات نبوة فلان وعلان من الحكماء والفضلاء ليست عن الحق ببعيدة، وقد ينال منها أن ما يبلغنا من تراثهم ليس فيه ذكر لله تعالى، والحق -عندي- أن من وجدت في كلامه خيرا وموافقة لكلام أهل الحق فقد طالت أيدي التحريف كلامه، فغدا التوحيد شركا، والخير شرا، إما تحريف عن سوء فهم وتباعد زمان، أو مصالح مباشرة لبعض المنتفعين.

لا أجزم بتعيين هذا أو ذاك، ولكنني وقفت على كتاب الطاو لمؤلفه الحكيم لاو تزي، فوجدت فيها عجبا عجابا أشارك بعضها معكم، وقد شاركت بعضها مع شيخي فأطرق لثوانٍ ثم ذكر لي من حكم سيدي ابن عطاء الله السكندري ما يتوافق معها!

فدونكم بعض ما وقفت عليه:

يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري:
"لا ترحل من كون إلى كون؛ فتكون كحمار الرحى يسير، والذي ارتحل إليه هو ما ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون (وأن إلى ربك المنتهى)، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، فافهم قوله عليه الصلاة والسلام، وتأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم، والسلام"

واجمع ما سبق مع قوله رضي الله عنه:
"الطي الحقيقي أن تطوي مسافة الدنيا عنك، حتى ترى الآخرة أقرب إليك منك"

ومن أصول الطريقة النقشبندية الصوفية، مقولة فارسية: "سفر در وطن"، ومفادها أن السفر الحقيقي هو السفر في الوطن، كناية عن سفر النفس لا الجسد.

ثم قارنه بقول الحكيم لاو تسي:
"من غير أن تسافر بعيدا،
تستطيع أن تعرف العالم كله،
من غير أن تنظر من النافذة،
تستطيع أن ترى طريق السماء،
كلما ابتعدت كلما قلت معرفتك،
ولذا فإن الحكيم يعرف دون أن يتحرك خطوة،
يميز دون حاجة إلى نظر،
ينجز دون حاجة إلى فعل"

تجد أن الرسالة المنشودة مشتركة بين ما سلف من النصوص، فكلها دلت على أن الجواب في الداخل، وأن حقيقة السفر والترحال في درجات النفس، وبذلك تكتسب المعرفة الحقة في الطريق إلى الله تعالى.

وفي سياق آخر يقول سيدي العارف بالله ابن عطاء الله السكندري:
"إذا أردت أن يكون لك عز لا يفنى، فلا تستعزن بعز يفنى"

لتجد لاو تسي يقول محاكيا نفس المعنى:
"ثبت قلبك على الصورة العظمى،
يأت العالم إليك،
يأت الجميع إليك"

فباب تسخير العالم هو شهود مالك العالم سبحانه وتعالى.


ومثال آخر يقول فيه سيدي ابن عطاء الله:
"ربما وردت عليك الأنوار فوجدت القلب محشوا بصور الآثار، فارتحلت من حيث نزلت" 
ويقول:
"فرغ قلبك من الأغيار، يملأه بالمعارف والأسرار"

ثم نعود إلى الحكيم لاو قائلا:
"صاحب هذا الطريق، لا يرغب في الامتلاء،
ولأنه يبقى غير ملآن، يبلى، ليتجدد على الدوام"

ومفاد ما سبق أن العارف يطلب تفريغ قلبه دوما من السوى، كي يكون قابلا لأنوار الواردات.

...

وغيرها الكثير جدا، وقد يعترض سمج أحمق على أن في ذلك دلالة على اقتباس بعضها من بعض، لنقول له هذه دعوى تحتاج لبرهان، وأما دعوانا أنها اقتباس من الحق وبقايا النبوة فهي الأصل الذي يقر به كل مؤمن، وهذه قاعدة عامة، أما الرد الخاص في هذا المقام أن كتاب الطاو لا يعرف له أي ترجمة عربية إلا في القرن الأخير.

وعموما، من ينظر بعين الباحث عن النور المشترك سيجد عجبا في بقايا الحضارات والأمم ويعلم أن النور لا يزول، بل لا يحجب بالكلية، لأنه أظن من أن تحجبه حفنة ظلام، والسلام.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسرحية الحياة في هجوم العمالقة - الجزء الأول

أسد أسد لا أسد

مسرحية الحياة في هجوم العمالقة – إرين ضحية وجودية سارتر