مسرحية الحياة في هجوم العمالقة – إرين ضحية وجودية سارتر
إيرين بين سارتر وكانط:
سارتر، الفيلسوف الفرنسي المشهور، مؤسس الوجودية التي ما هي -برأيي- إلا منتج من منتجات العصر لا جديد فيه إلا صياغته، العبارة التي تجسد جوهر فكر سارتر "الوجود يسبق الماهية" تحكي بوضوح المأزق الذي وضع سارتر الإنسان فيه، أنه وجود مجرد من كل معنى وعلى صاحبه أن ينتقي لنفسه تلك الماهية، حرية مرعبة تلقي بأعبائها على الإنسان الضعيف فتقطعه عن كل متسامٍ عالٍ عليه، وحيدًا يُطلب منه صناعة كل شيء وابتكاره.
في نفس السياق تكون الأخلاق نتيجة لرغبات الإنسان في جوهرها، فعليه أن يصطنع لنفسه نموذجًا أخلاقيًا بلا أي مثال مسبق، ثم عليه أن يلزم نفسه باتباعه ليكون أخلاقيًا، ولكن، إذا لم يكن هناك أي نموذج مسبق، وكانت الماهية عدمًا حتى يوجدها الإنسان فمعنى ذلك ما قاله هو: "إذا لم يكن الله موجودًا، فلا يمكن أن توجد قيم مطلقة، لأن الإنسان هو من يخلق القيم"، إذن ويل للناس من بعضهم البعض، فلا شيء يمكن أن يكون مطلقًا، لا حق ولا باطل، الكل -حسب جوهر فلسفة سارتر- مباح متاح، ولعل الإلزام الوحيد هو اتساق المرء مع ما "يخلقه" لنفسه.
إيرين ييقر، تلك الشخصية الشقية المأساوية، بدأت رحلتها بنموذج أقرب للأخلاق الكانطية والتي توجب على المرء الانقياد الذاتي للأخلاق العالمية التي يوصل العقل إلى ضرورة اتباعها -حسب نظرته هو-، مثلا أن العقل يرى أنه لابد أن تكون العدالة قائمة، فلو عرض على إنسان أن يكون الظلم هو القانون الأخلاقي العام لرفضه بلا شك، مما يوجب عليه اتباع عقله في تبني العدالة لا لغرض إلا لأنها في ذاتها عقلانية وصحيحة.
هذا كان حال إيرين مثله مثل باقي شخصيات هجوم العمالقة، وهذه الفلسفة تقي المرء من الانفراد بتحمل عواقب الأفعال وما تؤول إليه، لقد فعلت الحق وهذا كل ما هنالك، ما ينتج عنه ليس لي يد فيه ولا أثر، أما الوجودية السارترية فهي لا تعطي للمرء هذا المتنفس، بالعكس، فإن الإنسان باعتباره خالق الأخلاق فلا يتحمل مسؤوليتها سواه.
عبء الحرية:
عبارة سارتر المشهورة: " الإنسان محكوم عليه بالحرية" تنطبق على إيرين بعد إدراكه للمستقبل بسبب قدرة العملاق المؤسس، ولكن للأسف هذه الحرية الوجودية مختلفة عن الحرية الكانطية التي كان يرجوها قبل هذه اللعنة، فالحرية الوجودية تقترن اقترانًا وثيقًا بالمسؤولية المطلقة النفسية؛ أي أنه محكوم عليه أن يخلق قدره لا أن يتبعه، والخالق لا ريب مسؤول عن خلقه، وإن كان نطاق الفلسفة السارترية لا يحمله المسؤولية بالضرورة، إلا أن الإنسان وإن صنع لنفسه ما صنع يضل في داخله ضمير يعاتبه إن حاد عن الحق، والحق هو الفلسفة الأخلاقية الموضوعية -ذات المصدر الإلهي تحديدًا، ولكن هذا نقاش آخر-.
سارتر لا يسمح في فلسفته للإنسان أن يتملص من مسؤولية أفعاله بنسبها للقدر أو غيره، وهنا باب مأساة إيرين، الذي وعى تماما هذا المبدأ.
عندما أخذ إيرين على عاتقه خلق أخلاقه رأى أن قيمته العليا هي نجاة أصحابه وتنعمهم بحياة رغيدة، وأن هذه القيمة مطلقة لا تقبل النقاش أو المساومة، فما كان منه إلا أن يبحث في كل الاحتمالات المستقبلية لينتقي منها أكثرها تحقيقا لغايته، فكان ما كان من الدمار والإبادة، مع ذلك، كان إيرين يتألم! لماذا؟ لأن الضمير لا يتفلسف، فكان ضميره أشد عليه من سيوف العدا، يحاول جهده أن يثنيه عن الأخلاق السارترية الوجودية.
لعنة مأساوية أن تتحمل الماضي والمستقبل دون أن تجد ما يشاركك فيه مسؤوليته، هذا ما دمر إيرين، أنه يعلم أنه على حق، ولكنه يشعر أنه على باطل، أما علمه فنتيجة للأخلاق السارترية الوضعية، وأما شعوره فنتيجة للضمير المنقاد للأخلاق الوضعية.
إيرين، بطل أم ضحية؟:
إيرين ليس بطلًا تقليديًا. ولا هو شريرٌ بسيط. إنه شخصية وجودية، ممزق بحرية الاختيار غير المحدودة وبالعبء الساحق الذي يتبعها. في مفهوم سارتر، هو النحات والتمثال في آنٍ واحد، يعيد تعريف نفسه من خلال أفعاله.
لكنه أيضًا ضحية: ليس للقدر، ولا للعالم، بل للوجودية ذاتها.
لا تكمن مأساته في فشله، بل في نجاحه المطلق. عاش ومات بسيف الحرية، دون أن يختبئ خلف الأعذار، متحملًا النتائج بالكامل. وفي لحظته الأخيرة، حتى طلبه المغفرة لم يكن هروبًا من المسؤولية، بل محاولة إنسانية أخيرة لفهمه.
إيرين: من البطولة إلى المأساة
إيرين ليس بطلًا تقليديًا، ولا هو شريرٌ بسيط. إنه شخصية وجودية بامتياز، ممزق بين حرية الاختيار وبين العبء الساحق الذي تتطلبه هذه الحرية.
في فلسفة سارتر، الإنسان هو النحّات والتمثال في الوقت ذاته، يصنع ذاته بأفعاله، ويتحمل مسؤولية كل نحت فيها. وإيرين جسّد هذا المفهوم بأكمله. لم يتهرب من المسؤولية، ولم يختبئ خلف القدر أو الظلم، بل نظر في المرآة وقال: أنا من اختار هذا الطريق. لكنه أيضًا ضحية لا للقدر، ولا للمجتمع، بل للوجودية نفسها، التي رفعت الإنسان إلى منزلة مشرّع القيم ثم تركته في العراء، يواجه نتائج خياراته وحيدًا. لا تكمن مأساته في فشله، بل في نجاحه الكامل. لقد نجا من القيود والأسوار لكنه لم ينجُ من نفسه.
إن نظرنا إلى غايته، فقد تحققت كما أراد: أصدقاؤه أحياء، ينعمون بالحرية التي لم يحظَ بها هو. لكنه رأى أن حريته الأخيرة تكمن في أن يصنع حريتهم. وفي سبيل ذلك، اختار المسار الذي بدا له الأقل ضررًا على من أحب، لكنه كان الأكثر قسوة عليه هو. ولذا، ظل إيرين يعيش داخل دوامة أخلاقية مؤلمة: بدايتها حق مشوب بالغضب، ونهايتها باطل مغموس في البؤس.
في لحظته الأخيرة، لم يكن طلبه للمغفرة تبريرًا ولا تنصّلاً، بل محاولة إنسانية يائسة لأن يُفهَم.
الضمير لا يتفلسف، وهو لم يغفر له، حتى حين فعل ما بدا أنه "الصواب الوحيد الممكن". وللقارئ أن يتساءل: هل كان لإيرين أن ينجو من لعنته كما أخرج يومير من لعنتها؟ أم أن المخلّص لا يملك دائمًا أن يخلّص نفسه؟
وهكذا، نجا العالم، لكن إيرين لم ينجُ من إيرين.
أدام الله مداد حروفك.
ردحذف