مسرحية الحياة في هجوم العمالقة - الجزء الأول
مقدمة:
ياسر يدعي أن هجوم العمالقة من أفضل ما أنتج الفن الإنساني مطلقًا - طبعًا الأمر في سياقه بما تميز في هذه العصر من القدرة على تجسيد الخيال واستعمال الصور والأصوات لاستخراج ما بطن في عقل المؤلف -، وعليه أكتب هذه الأسطر التي لا أعلم طولها ولكن ما اختلج في صدري وما دونته من ملاحظات خلال متابعتي له يشي بطول المكتوب.
من يتأمل في هذا العمل يدرك اطلاع الكاتب الواسع، فقد طوى فيه رموزًا وإشارات يصعب حصرها، واعتماده على الثقافات الجرمانية القديمة واضح وملفت، وإن لم يحصر نفسه بها، سيكون هذا المكتوب على هيئة مقالات مفرقة تتناول جوانبًا أو شخصيات من المسلسل.
تأتي هذه المراجعة على اعتبار أن هذا العمل عمل إنساني عظيم يستحق الوقوف عنده وتأمله وتحليله، وهذا غرض المكتوب الأول والأخير.
أعلم أن دائرة انتشار هذا المكتوب لن تكون مكافئة للوقت الذي سأمضيه في كتابته، ولكن هذا المكتوب لي لا لغيري، أشكر به هذه القطعة الفنية العظيمة.
إن لم تتم مشاهدة كل الحلقات فأنصحك بألا تقرأ هذا المكتوب لألا تفسد على نفسك بمعرفة الأحداث قبل أوانها.
مسرحية الحياة في هجوم العمالقة
لم يكن عالم هجوم العمالقة سوى مسرحية تحاكي الحياة بكل ما فيها، وسمة الوجود دورانه وإعادة تكرر الأحداث باختلاف بسيط في الممثلين لا غير، نفس الحبكة ونفس البداية والنهاية، حتى ذلك الذي أراد أن يخرج من تلك الحلقات المفرغة يجد نفسه في آخر نفس يلفظه يلعب دورًا ما ظن أنه تحرر منه.
تفاهة الشر (رجل خائف على طرفي البندقية):
عدد المآسي في عالم هجوم العمالقة لا يقل عن واقعنا المرير، خاصة آخرها، ولكن ومع كل تلك الجرائم والفجائع لن تجد من يشرب دماء أعدائه ضاحكًا مسرورًا، ستجد خلف كل بندقية من الجهتين رجلًا خائفًا ممن على الطرف الآخر من البندقية، الاختلاف الوحيد هو اتجاه السلاح.
الشر تافه، وهذا المصطلح استخدمته الفيلسوفة حنة آرندت عندما رأت محاكمة آيخمان وهو أحد أكبر أعوان هتلر الذي قام بالإشراف على عدد كبير من جرائم النازية، حنة وعائلتها كانوا ضحايا لجرائم النازية، وعند حضور محاكمة آيخمان رأت ما لم يخطر ببالها، رأت رجلًا عاديًا بشكل مرعب، لم يكن شريرًا! فوصفت ما رأت قائلة: "لم يدرك أيخمان ما كان يفعله بسبب افتقاده للقدرة على التفكير من وجهة نظر شخص آخر" وفي هذا النقل مفتاح هامّ لفهم عالم هجوم العمالقة.
راينر لم يكن شريرًا ولا بيرثولد ولا إيرين، الكل كان يفعله ما بوسعه ليعيش فقط ويضمن الحياة لأحبابه.
غالب الجرائم دوافعها بسيطة لدرجة الغثيان! هل تتخيل أن تبيد مدينة كاملة وتقلب حياة من بقي منهم جحيمًا فقط لتعامل دولتك والداك بشكل أفضل قليلًا!؟ المؤلم أن مشاهد هذا العمل العظيم سيتعاطف مع الكل، وإن ألقيت اللوم على أحدهم فسرعان ما يتبدى لك وجهة نظره التي لا يمكن تجاهلها، عالم من الضحايا.
الضحية فيه هو عين المفترس لا فرق بينهما سوى اتجاه البندقية.
البداية:
تبدأ الرحلة في دورتها الإيرينية – نسبة لإيرين – في قفص كبير تلعب فيها شجرة مطلة على التلة دورًا محوريًا سنتطرق إليه لاحقًا، عالم ضيق محدود ولكنه كافٍ إلى حد ما، وقعت في يد طفل أشقر واسع العينين جبان ولكنه فاضل تفاحة المعرفة المحرمة ولكن ليست في صورتها التراثية بل في صورة كتاب يدعي أن وراء تلك الأسوار أراضٍ واسعة فيها الماء والنار والهواء يتشكلون بكل صورة ورسمة، شارك ذلك الطفل صديقًا له يدعى إيرين تلك المعرفة المحرمة والتي سرعان ما أيقظت فيه خصلة مدفونة تحولت إلى شخصيته.
حدث عابر يغير صورة العالم حقيقة ومجازًا.
كان العالم مليئًا بالصراعات الاعتيادية التي سرعان ما تنشأ في أي مجتمع إنساني، حتى في الجنة إن بقي الإنسان إنسانًا، التجار بطمعهم يشغلون الناس سخرة، ذوي السلطة يقتاتون على كل ما تصل إليه أيديهم السمينة، رجال الدين يعصبون أعينهم ويسعون فيما يسمونه مهمة مقدسة وإن تطلب ذلك ما تطلب، والعوام مجرد سواد تحركه مشاعر السادة.
كما قيل: الحياة الرغيدة تصنع رجالًا ضعفاء، والرجال الضعفاء يصنعون حياة عسيرة، والحياة العسيرة تصنع رجالًا أقوياء، والرجال الأقوياء يصنعون حياة رغيدة، والحياة الرغيدة... إلى ما لا نهاية.
كانت الحياة رغيدة، فكان الرجال ضعفاء، الجدران المقدسة موجودة لتحمينا من خطر نعلم وجوده وإن لم نره.
من ذاق عرف، ومن عرف اغترف:
لطالما كانت الأجنحة في النصوص الدينية والفلسفية قديمًا ذات دلالة عميقة على التعالي الروحاني، فكان فوج المستكشفين – باتخاذه للأجنحة شعارًا له - يعيد للبشرية أهم خصالهم وهي السعي للترقي الحقيقي، وذلك الترقي لا يمكن بمعزل عن الحقيقة، كما هو الحال في كهف أفلاطون حيث يكتفي الناس بوجودهم في كهف لا يشاهدون فيه إلا ظلال الوجود عن طريق وسائط تحدد لهم قدرًا من المعرفة.
كان فيلق الكشافة متنفسًا لمن أراد معرفة العالم، ولكن بما أنه أقرب لفرض الكفاية فقد كان يرضي نزعة الإنسان في اكتشاف الحقيقة علمه بأن هنالك من يسعى لذلك، ثم ما إن يرى عودة الفوج بربع ما خرج به من العدد، والدماء والجراح تنطفئ عند الإنسان تلك الرغبة، فلا خير إلا خير العاجلة عنده.
لكن لما اعتلى فيلق الكشافة رجل لا نظير له يدعى بإيروين سميث تغير الحال، لأنه كان باحثًا عن الحقيقة، وليس ذلك فقط بل قد ذاق بعضًا منها، وكما قيل: من ذاق عرف ومن عرف اغترف، تغير الحال وتبدل وبعث في جنوده من العزيمة والشكيمة ما لم يسبق، حقق أمجادًا غير معهودة وأعاد للبشرية قلبها النابض، حقيقته أنه لم يكن يكترث كثيرًا لمصير البشرية العددي، ولكنه كان طامعًا في تحريرهم وتحرير نفسه من الجهل.
وبما أننا أمام عمل بهذه العظمة فيجب ألا نغفل عن الرموز المنثورة في طياته، اسم إيروين في الإنجليزية القديمة يدل على معنيين: الأول هو الصديق، ودلالة هذا على شخصيته أنه لم يكن هو البشرية بل كان صديقًا لها، ونهايته مضحيًا برغبته دلالة على ذلك.
والدلالة الأخرى التي لا تقل رمزية تكمن في المعنى الثاني، وهو الخنزير البري – أجلكم الله – وهي في كثير من الحضارات العتيقة يدل بشكل مباشر على الشجاعة والشراسة، وهذا الآخر حاضر في كل لحظاته ولكن أبرز ظهور له آخر لحظاته التي تبدّى فيها بشراسة ترعب العدى! كان إيروين وحيدًا في عالم لا يعرف حقيقته غيره، إن باح بما علم اتهم بالجنون، وهذا حال ذوي العقول، وتستطيع القول من وجه ما أنه إنما أراد أن يخرج عن وحدته بأن يظهر صدق دعواه – أو دعوى والده تحديدًا – للعالم، ليشترك معه الكل في نفس النظرة.
إيروين صديق البشرية أصدر أمرًا أخيرًا قاد فيه مجموعة من البشر إلى حتفهم بصراخ ملؤه الشراسة والشجاعة، مع أن هذا الأمر الأخير كان حكمًا عليه بالموت دون بلوغ الدليل المنشود لنظرته للعالم إلا أن البشرية ستبلغه.
وحيد القرن الأسطوري (اليونيكورن) البراءة من كل شر:
وحيد القرن الأسطوري، الفرس ذا القرن الواحد كائن انتشر ذكره بتفاصيل تختلف قليلًا بين الحضارات العتيقة، ولعل أبرز تلك الحضارات السلت والذين اتخذ أحفادهم اليوم اليونيكورن شعارًا لهم، ورمزية هذه الكائن الخرافي السلتية هي النقاوة والبراءة والقوة، وفي ذكره في التراث المسيحي تجد معنًى إضافيًا وهو جنود الإله ذوي البأس والقوة.
وذكر هذا الكائن هنا لعلاقته المباشرة بفيلق الشرطة العسكرية، وهم ذوي الولاء المباشر للملك، وامتداد سلطته على شعبه، كانت لهم اليد العليا في كبت الشعب واستمراره أسره فكريًا وروحيًا وحتى جسديًا.
ولكنهم لطالما ادعوا النقاء والبراءة من كل شر! كيف لا وهم ينفذون أمر الملك الحكيم الذي بلا ريب يقود البشرية للسلام! كل ما يفعله هؤلاء شر تافه فأصله لا يعدو كونه تنفيذًا للأوامر، وزد على ذلك أن تلك الأوامر تصب في مصلحة السلام العالمي ممن يمثل في أعينهم العصمة عن كل خطأ والإحاطة بكل علم.
ما أسهل القرارات التي تتخذ تحت العجز الموهوم، التي يستطيع فاعلها أن يقول ويداه ملطخة بالدماء: "فعلتها مجبرًا، وغاية ذلك الخير ولا شك".
طبعًا مثل هذا الدور لا يمكن أن يقوم به إلا نخبة النخبة، فهو يقع في قطب العالم وقلبه، لا هو من الكشافة المطرودين ولا من حامية الأسوار.
الصدمة وما بعدها:
كان راينر معتدًّا بإيمانه المطلق بأفكاره، واستمر وكله ولاء لسيده مارلي، كان ذلك المحرك كافيًا له لأن يرتكب جريمة اختراق الأسوار أول مرة على أمل أن ينتج ذلك من الفوضى ما يكفي لاختراق الصفوف باحثين عن العملاق المؤسس.
ولكن سرعان ما اصطدم ذلك الإيمان بجدار الواقع الملموس المحسوس عندما أمر بكل ولاء أن يجرد ماركو من عدته ليلتهمه أقرب عملاق، ولكن لحظة الشكيمة تلك لم تطل، فما إن بدأ ضروس العملاق تنهش في جسد ماركو حتى افترق راينر إلى فريقين، المحارب المارلي والجندي الإليادي فتأمل متسائلا عن سبب التهام العملاق لصديقه الذي قضى معه عامه المنصرم ماركو وكأنه للتو حضر المشهد!
ولا أبرز من صدمات إيرين، والتي أول ما عرض علينا منها لحظة تأمله وهو طفل في والدته والعملاقة ينتشل جسدها من بين الركام ليرفعه إلى فمه الواسع ثم ينهال عليه بصفوف من الأسنان التي مزقت جسدها الحاني لتصرخ صراخ صداه لا ينفك عن أذن إيرين، تلك اللحظة التي كان ينبغي لها أن تكون لكي يحدث ما يحدث.
إيرين الصياد:
ييقر كلمة ألمانية تعني الصياد، وهي شخصية إيرين الظاهرة لنا طيلة المواسم الأُوَل، التي تكونت بسبب آخر حدث أشير إليه في الفصل السابق.
كان الغضب المحرك الأول له، به يعيش وبه لن يموت! حالة الصيد والمَصيد تمثل أبرز أدوار مسرحية الحياة، فهي خلاصة تمكن القوة من القوي والضعف من الضعيف، والكل قابل للطرفين ولكن القوة هي التي ترجح أحد الكفتين. الصراع الدائم، الضعيف يتقوى طلبًا للانتقام والحرية من القمع، ثم ما إن يغلب يعيد نفس المشهد ولكنه أخذ الدور الآخر.
إيرين أراد بكل بساطة ألا يكون صيدًا بل صيادًا، انتقام شامل من الجنس المعتدي.
الغضب كما يعرف غليان الدم طلبًا للانتقام، وأن تكون هذه الحالة العرضية الدافع الأساسي والوحيد للحياة تسلب من الحياة كل شيء، ولكن جوهرها الخواء التام والهشاشة المطلقة، ذلك لأن الانتقام ليس حالة ذهنية بقدر ما هو دافع مشاعري خالٍ عن كل ما هو منطقي.
بمجرد إدراك إيرين لحقيقة العالم بلقائه مع الملك فريتز فقد إيرين دافعه الساذج - خاصة بعد أن دلس على نفسه بنصيب من البطولية وكأن هدفه إنقاذ العالم لا الانتقام – الذي لا تعقل وراءه، لأول مرة بدأ يتناول دوافعه بشكل عقلاني بعد أن عرضت عليه معلومات كانت خافية عنه، أدرك أن غضبه غير مبرر في السياق الأعظم للأمور، وانهار انهيارًا كسر شخصيته المعهودة.
ولكن إيرين الصياد لم يزل بعد، كل ما في الأمر أن الصيد صار وسيلة لا غاية لأهم دور يلعبه إيرين، والذي سيفرد بمقالة تفصله.
تعليقات
إرسال تعليق