الطبيعة تكره الفراغ
نتوهم لفرط عشقنا للسلطة والتحكم أننا سادة أنفسنا وحيواتنا، أننا نملكها، على الأقل الجزء اليومي منها، أو لنقل الأجزاء غير الإلهية منها، ما بقي لنا بعد أن أخذ القدر نصيبه، ولكن ما إن يمضي أحدنا ليومه ناسيًا خاتمه أو ساعته أو أي شيء اعتاد ملازمته حتى تجده يشعر بفراغ وقدر من الضياع.
لو نظر المنصف فينا إلى حياته لوجدها مقسمة بين كثرة كاثرة، للقهوة نصيبها، ولتلك الأغنية نصيبها، والعطر، والساعة، والخاتم، بل حتى الحمام الدافئ بداية اليوم، لو فقد المرء شيئا منها تأثر يومه بقدر الفراغ الذي تركته.
الفراغ... معيار عظيم لأثر الناس فينا، والحقيقة أن الفراق -قاتله الله- يجلّي لنا نصيب الراحلين منّا، هذا أخذ معه السعادة وذاك أخذ الفكر وتلك أخذت القلب.
ولعل علة الفراغ هو اندماج أجزاء منا بأصحابنا، وعند الرحيل يلملمون أنفسهم وأجزاءنا المستودعة لديهم ويغادرون مخلفين تلك الفجوات.
ما بعد الفراغ:
"الطبيعة تكره الفراغ (horror vacui)" عبارة صاغتها السكولائية لتحكي فلسفة أرسطو فيما يتعلق بالفراغ.
بعد أن يرحل الراحلون تبدأ رحلة ما بعد الفراغ، والتي بدايتها إدراك الفجوات الهائلة في صرح النفس، سور اقتلع وسقف تخرّم وأرض انهارت، ثم يليها تفكّر... كيف كانت قبل؟ وكيف كانت قبل القبل (=أي قبل أن يدخل الراحلين في حياتنا حتى)؟ ثم محاولات طويلة مديدة لملء تلك الفراغات، فالطبيعة تكره الفراغ.
كانت السعادة مقترنة بسماع اسمي منها، أو اقتران الأمان بكتوفه العريضة ويده الواسعة، أو حتى الأزمان التي اعتدنا قضاءها معهم... كل تلك بعدهم تحتاج لكلء، أن يعاد استكشاف السعادة والأمان، والأزمان.
وإن شئت الإجمال فلك أن تقول: نحتاج بعدهم لإعادة تعريف أنفسنا؛ فهي (=أي أنفسنا) بعد رحيلهم منكرة مثخنة بالفراغ القاسي، بناء متهافت آيل للسقوط، فحقه الترميم والإصلاح إلى أن يعود معروفا بعد أن نكّر.
صلصال وألف فنان:
من خلق من طين لا يستغرب منه التشكل والتغير، يدخل شخص في حياتنا فيشكلنا بصورة مغايرة عما سبق، يرحل، فيترك لنا فرصة جديدة للتشكيل، نشكل ويشكلون صلصال وألف فنان.
لا سبيل إلى حجب الفقد بالكلية، ولكن أقلها ألا يكون قاسيا موحشا، بل عامرا بذكراهم الجميلة، التي تحل محل الراحلين.
قرأت قديما نصا لهايدَقَر مغازلا به حنه آنردت قائلا: "أريد أن أعينك لأن تكوني أنتِ في أبهى صورك" لعل في غزل هذا الفيلسوف لتلك الفيلسوفة سرا يستحق التأمل.
أن العلاقات الإنسانية مسؤولية الطرفين، فينبغي ألا يسمح أحد لرفيقه بالإفراط، فلا تكون لها الماء ولا تكون هي لك الهواء، ولا تكون شقها الأيمن لتكون هي شقك الأيسر، بل أن يكون كل منكما قائما على جنبيه يحب الآخر بلا حرمان.
يعين المحب حبيبه أن يستغني عنه، ثم يختاره وهو في غنى عنه، ألا يعجز أحدهما عن الحياة عند غياب الآخر، ولكن وجوده يلونها ويحليها.
بذلك يكون الرحيل -على قسوته الذاتية- أخف وطأة على مقاسيه.
مازلت أتصفح ياسرياتك على مهل ولا أعلم مالذي أتى بي في هذه الساعة إلى هنا لكن هذه الياسريه خاضت الحوار المؤجل لأشهر بيني وبين نفسي ….
ردحذفعموما كل جزء منها يستحق الإقتباس والتأمل
سلمت وسلم الله أيامك من الفواجع والمواجع