ما أبعد ما بين الجانب والفي
عند دخول الأسوار -وهي الذكرى الأولى لكل منّا- نعطى بطاقة تميز المرء عن غيره، فيها نقوش وألوان لا يعلم أحد سرّها، وأغلبها ملطخ هنا وهناك ببقع سوداء تغطي ما تحتها، وأولها اسم يتصدر البطاقة.
دوريان، اسمي، أو على الأقل الاسم المكتوب في بطاقتي.
العالم داخل الأسوار أكبر من أن يحيط به أحدنا، فيه كل ما تشتهيه الأنفس وفيه من الكنوز النفيس والأنفس.
أول أمري أخذت أتأمل بطاقتي وأتحسسها بأطراف أصابعي، فيها نقوش بأحجام متفاوتة، وألوان متعددة، تغطيها بقع سوداء في بعض المواطن، وفي مواطن أخرى طبقة خفيفة من السواد، شعرت يقينا بأهميتها وكأنها قطعة مني، كلما استقرت عيني على لون في بطاقتي وجدته كسر بلون آخر، بطاقة ملونة لا لون غالب فيها.
ضربت في أرض ما بين الأسوار باحثًا عن شيء ما، أي شيء؟ لا أعلم ولكنني أعتقد أنني لو رأيته لعرفته.
لمحت في الأفق مدينة عامرة، تكاد تنادي من حولها إليها بسلاسل الرغبة أو الرهبة.
خلال سعيي لها وجدت مجموعة من الناس ما إن اقتربت منهم وجدت بطاقتي تسحبني إليهم، جلست إليهم فإذا بنا نستحسن صحبة بعضنا البعض، إلا همّاس، لم نتجانس وبطاقتي كانت تبعدني عن بطاقته ذات اللون البنفسجي الداكن.
أول دخولي للمدينة - التي تبين أن اسمها كولدرن - وقعت عيناي بل قلبي على فتاة بلغت في الحسن المنتهى وفي بحر عينيها تهيم القلوب والنهى، لا أذكر ما جرى ولكنني وجدت نفسي واقفا أمامها أكاد أشم عطرها، فسألتها عن اسمها فأجابت بصوت يبعث الموتى ويبطش بالفتى قائلة: ذكرى.
بطاقتي كانت تجذبني بأقوى ما يكون تلقاء ذكرى وكنت للبطاقة طيعا مقودا في جذبتها تلك، بطاقة ذكرى كانت مصبوغة ألوان متعددة ولكن يغلب عليها البياض، بياض كبياض جيدها.
ذكرى ليست ما أبحث عنه، لا يقينا بل هذا ما يغلب على ظني الآن، ولكنها وبلا شك غاية تستحق أن تبذل لها المهج.
كانت ذكرى تبادلني هذا الشعور، الذي أظنه الحب العارم الطاغي الغالب الفائق الرافع الخافض، أو لنقل إيجازا الحب.
استمرت صحبتي مع رفاق الطريق، وقد أخذتنا الحياة فيها مناحيا عديدة، والعجيب أن صحبتي مع هماس دامت، بل قل توطدت.
في نقطة ما، قرر معظم أهل كولدرن أن ما يبحثون عنه ليس فيها، فحملوا ما حملوا من أمتعة وارتحلنا عنها.
ما بين مجالسة هماس، والتأمل في وجه ذكرى خير الجلاس مضت غالب أيامي، ولكن نغص علي علمي بقلة مالي والمشوار مجهول واليد للمال لا تطول.
أسررت إلى هماس بسري هذا فضرب على صدره قائلا: حلك عندي يا صديقي! أعرف عملا لا يعوز عامله المال ويكفيه شر الطلب والسؤال!
ذهبت برفقته إلى خيمة بها مجموعة من الناس، فإذا بي أجد الأموال توزع يمنة ويسرة مقابل أعمال لا تطلب لا وقتا ولا جهدا.
اقتربت منهم وأعيني على الأموال منصوبة ويدي في يد هماس موصوبة، فإذا برجل منهم يشد بطاقتي إليه ليراها ثم صرخ قائلا: النخبة السوداء لا يقبلون مخالطة المغفلين والأغبياء!
دفعني بقوة خارج الخيمة.
أقبل إلي هماس ينفض عني التراب والغبار، وطلب رؤية بطاقتي، فإذا بها ملونة يكثر فيها قليلا البنفسجي الداكن مع بعض البياض هنا وهناك، ثم قال لي: بسيطة يا رجل، كل ما عليك أن تصبغها.
علمت منه أن البطاقة يمكن صبغها بما تريد من ألوان ونقوش ولكن الصبغات لن تدوم إلا إذا داومت على صبغها فترة من الزمان حتى ترسخ، ترددت في أمري، فهذه البطاقة أغلى من أن يعبث بها... ولكن لعل هدفي يستحق أن أبذل له هكذا تضحية.
صبغت جزءا منها بالأسود ثم عدت إلى الخيمة فإذا بهم استقبلوني كأن شيئا لم يكن، استمر الحال على ذلك، أصبغها كل يوم وأقبل عليهم.
كثرت أموالي وأغدقت على حبيبتي وأغلى ما لي.
استمرت القافلة بالسعي، وسميت القافلة باسم المدينة لحفظ ذكراها، قافلة كولدرن، في النهار سعي وفي الليل تنصب الخيام لتعود المدينة مدينة.
في يوم من الأيام ذهبت لعملي وفي نصف الطريق تذكرت أنني لم أصبغ اليوم، فنظرت إلى بطاقتي قلقًا لأجدها سوداء مع مناطق بنفسجية وبعض الألوان المتناثرة بقلة، حمدت الله أنها على حالها... ولكن بأي لون كنت أريد صبغها؟ ألم تكن هكذا على الدوام؟
ذكرى من لها في القلب موطن ومسرى، أقبلت عليها بعد طول غياب إقبال الظمآن للماء والغارق للهواء.
ما إن جلست إليها حتى رأيت منها ما جمد الدم في عروقي، نظرة لم أرها ولم أرد أن أرها.
"ما بالك يا ذكرى!"
"من أنت؟" صاحت في وجهي
"من أنا؟ أنا دوريان!"
"دوريان؟ أنت؟ أنت لا تشبهه حتى! أين ألوان دوريان الزاهية؟! لم يكن دوريان يوما بهذه الألوان!" ذكرى
"هذه الألوان؟ أي ألوان؟" سألت، ثم فطنت أنها تتكلم عن بطاقتي، نظرت إليه اختلاسا فإذ بها كما كانت عليه بنفسجية مع سواد وبعض الألوان المتناثرة.
حاولت إقناعها أنني أنا دوريان حبيبها ورفيقها... ولكن صدودها المرعب تركني عاجزا، وتلعثمي أمام حدة نظراتها كان دليلا على إدانتي...
تعلمت الفقد عليه اللعنة ما أقساه...
استمرت الرحلة وبدأ الناس بمغادرة القافلة ليسلك كل منهم سبيله الخاص، قررت أن أعود لبحثي وأن أتفرغ له بالكلية هذه المرة، لا ذكرى ولا غيرها... آه يا ذكرى...
سنين وأيام انقضت وأنا أبحث، أبحث في الأشخاص والأماكن، لم أعثر على شيء، ولكن العجيب أنني أشعر أنني اقتربت.
وبعد رحلة طويلة وحيدًا لمحت من بعيد الأسوار! ورأيت أمامها بابًا يحول دون سلم طويل يصل إلى السماء... علمت يقينا لا يخالجه شك أن وراء الباب غايتي ومطلبي، وأن كل ما بذلت وعشت واكتسبت وفقدت كان لأجل هذه الغاية!
انطلقت متلهفا بكل ما أوتيت من حول وقوة إليها، ولما وصلت إليها وجدت كتابة على الباب، اقتربت لأقرأها فإذا هي:
"قدم بطاقتك كما أعطيتها بعد أن أجليتها"
قدمت فرحا بطاقتي! لتقذف على وجهي بكل احتقار... جربت مرة أخرى دون فائدة... تذكرت كلام ذكرى! كيف كانت بطاقتي؟ ألواني الزاهية، نعم! بسيطة.
لونت البطاقة بكل لون أعرفه وقدمتها لترفض مجددا، مرة وراء مرة، ألونها بترتيب آخر لترفض...
أنا دوريان، وهذه مذكراتي التي كتبتها بعد ألف ألف محاولة فاشلة جانب غايتي ومطلبي لا فيها، وما أبعد ما بين الجانب والفي.
كانت البطاقة تميز كل شخص عن الآخر لذلك رفضت مراراً، ربما عليك أن تتميز بما يليق بك عسى أن تنجح محاولاتك
ردحذف