الاكتفاء بإبصار المركب كالغفلة عنه

بصير، اسمي ولعل فيه وصفي كذلك.

أستاذ جامعي مرموق، محبوب بين أقراني وطلابي على السواء، أدرس الفلسفة، تحديدا ما يعرف حديثا بفلسفة اليقظة الذهنية، هراء يتعلق بالوعي بالنفس واللحظة وما إلى ذلك.

والد لثلاثة أبناء وبنت، كل منهم خير من أخيه، الأكبر طبيب، والثاني يدرس الهندسة، والثالث وأخته توأم كأنهما الشمس والقمر، الفتى هو الشمس وأخته الخجولة هي القمر.

بالجملة فإنني رجل جيد، لا ينكر ذلك أحد إطلاقا، سوى شخص واحد... أنا.

أنا أعلم أنني لست جيدا، وكل يوم يمر ويظل الناس على ظنهم بأني جيد يزيد من ابتعادي عن ذلك، أنا شرير وسيء بشكل لا يخطر على البال!

منذ ثلاثين عاما ولي عادة لا أتخلف عنها، وهي أنني أختلس صباح السبت من فجره إلى ظهره، أمضيه وحيدا بعيدا عن أعين من يعرفني من الناس وأسماعهم، تظن زوجتي وأبنائي أنني أخطط وقتها للمستقبل وأرسم تفاصيل حياتنا، وهذه كذبة أخرى صدقها الناس وزاد بها شري.

مالذي أفعله في هذه الفترة؟ عمل الخير الوحيد الذي أفعله في حياتي وهو أنني أدون حقيقتي هذه في هذه المذكرة، علني في يوم ما أتشجع لأنشرها بين الناس، وإن كنت أعلم أن شري يمنعني من ذلك، فأنا شرير جدا علي اللعنات!

بداية شري هذه أنني لطالما سعيت بلا هدف في أي اتجاه، ومن قبيل المصادفة المحضة كنت الأول على دفعتي، ثم نتيجة لشري فإني خدعت أستاذ الفلسفة بسؤاله لأسئلة وقعت عليها في أحد الكتب وملكت عقلي وقتها، ولا شك أنه ظن أنني استحدثتها من عندي فأعجب بي وكتب لي توصية ضمنت مقعدي في الدراسات العليا.

طبعا لم أنبس ببنت شفة، لم أخبره أنني غبي غير مهتم بالفلسفة كل ما هنالك أن تلك الأسئلة التي قرأتها أرقتني ولم أجد لها إجابة، وبهذا فإنني سرقت المقعد من زميلي الذي كان مولعا بالفلسفة التي يقرأ كتبها ليل نهار ويناقش الأستاذ بما فيها...

لم أحتج للمال يوما فوالدي تاجر كبير كفاني العمل، فتفرغت وقتها للدراسات العليا وبطبيعة الحال كانت درجاتي عالية، فزملائي منشغلون بتحصيل أقواتهم، وياللمفاجأة التعيسة فإنني للمرة الثانية سرقت المنصب ممن يستحقه، وهكذا حياتي...

وزوجتي المسكينة، ضحيتي الكبرى، تخيل أيها القارئ الكريم -كيف علمت أنك كريم؟ لا شك أنك كريم مقارنة بي، ولعلي أذكر ذلك لاحقا- أنني أول ما التقيت بها أيام الجامعة أحببتها، وتقربت منها شيئا فشيئا، ثم أصبحت أحاكي ما أعلم أنها تحبه طلبا لحبها، أجلب لها الورد لا لرغبتي الصادقة بل خدعة مني تستغل حبها للورد! وأفاجئها بزياراتي المفاجئة لأني أعلم حبها للمفاجآت، مجددا ليس لأني أحب المفاجآت.

مرة من المرات نسيت عيد ميلادها فلم أجلب لها هدية ولولا كرت مباركة من صديقة لها وجدتها على مكتبي لسبب ما لما تذكرتها، وخدعتها بأن قدمت لها هدية متأخرة مع عشاء رومنسي وكأنني لم أنسَ شيئا، وطبعا المسكينة استقبلت ذلك بابتسامتها الساحرة التي لا أستحقها.

لطالما كانت تردد علي مقولة: مد عينك إلى البحر، فالاكتفاء بإبصار المركب كالغفلة عنه، وكن أمثل فهمي لها وأقرّها على ذلك كعادتي في الكذب.

خمسة وثلاثون عاما من الخداع، كلما خرجت فجر السبت أعزم على أن أشاركها المذكرة لتعلم حقيقتي وليعاقبني الله بما أستحقه بعدها، ولكنني جبان إضافة إلى شرّي.

يعتقد الناس أنني أدرس في الجامعة رغبة في التدريس ونشر العلم، ولكنهم لا يعلمون أن أقصى همي أن يجاب عن أسئلتي التي أثقلتني، لعل أحد الطلاب ينبغ فيجيب عما عجزت عن إجابته، أنانية لا حد لها.

أتمنى أن يكتشف حقيقتي أحدهم، أن يفضحني أمام الملأ، انظروا إلى بصير كم خدعنا! حياة كاملة بنيت على الكذب! أن ينتقم مني أحدهم لقاء خداعي له، ليتها تكون زوجتي فهي أكبر ضحاياي كما قلت.

لكن المؤسف أن الناس طيبون أكثر من اللازم، يحكمون بالمظاهر متناسين الجواهر.

لا بأس، اليوم سأعود لأخبر زوجتي بكل شيء، سأفصح لها بالحقيقة، على الأقل أكون شريرا حاول التوبة، وإن خسرت كل شيء إلا أنني سأكسب نفسي.

...

طرق بصير الباب، وفتح له زوجته، ثم قال لها:

"أريد أن أخبرك بشيء عني، حقيقتي التي أخفيتها"

ردت:
"يا حبيبي يا بصير، كعادتك الأسبوعية، والله يا عزيزي أنني أعلم عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك، ادخل الآن أطفالنا في انتظارنا ولنتحدث لاحقا، ولا تنسَ مد عينك إلى البحر، فالاكتفاء بإبصار المركب كالغفلة عنه."

عزم بصير أن يحاول إخبارها في السبت القادم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا

مسرحية الحياة في هجوم العمالقة - الجزء الأول

حينما كنا لا نحتاج إلى الذكريات