حينما كنا لا نحتاج إلى الذكريات
يقال أن الثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء ما هو إلا تقلص جرم ضخم النية لأحجام غاية في الصغر، فيكسر بذلك قوانين الطبيعة ويصبح فجوة لا تشبع.
الليلة شهدت ثقبًا أسودًا... بعد طول غياب - والأحباب قصير غيابهم طويل - اجتمعت بأصدقاءٍ وخليل في جلسة حفت بالأنس.
أتى خليلي وصديقي - المتغير - في حلل سوداء، وهذه أول مرة تزف البشائر في السواد، المدهش أن الوداع انطوى في عناق الترحيب.
كنا إذا اجتمعنا نكر بأطوار المجلس الخمسة، ترحيب وحفاوة، تعقبها آخر أخبارنا، ثم ما يكمن وراء الأخبار مما يغيب عن كل مجلس لا صديق فيه، ثم صمت وملل لطول الجلسة، أخيرا ذروة الأنس وغايته والتي يقطعها ختام مقتضب لا يعد طورًا حتى لتداخله في الذروة.
ساعات اللقاء الطويلة - التي لا ندم فيها ولا حسرة، فما لم يقل اليوم سيقال غدًا أو بعده، وكل شيء يحتمل التأجيل والإطالة ولا بأس - أمست معدودة على أصابع اليد الواحدة، هنا وهنا فقط ينضغط الزمان لينتج ما سماه العلماء - أنا - بانقباض الزمان.
العجيب في حالة انقباض الزمان أن كل شيء فيه يتحدث بأفصح الألسن، بل حتى العجمة تمسي معبرة، النظرات والتنهيدات والحركات والسكنات والإشارات وغيرها.
طبعًا هذا ما سيحدث! فكل شيء يجب أن يقال الآن - آن المتكلمين على وجه الخصوص -، اللقاء القادم قد يكون قبيل ظهور المهدي بقليل، وقد يكون بعده حتى، الله وحده يعلم.
حتى الذكريات لا تصف الماضي فقط في لحظة انقباض الزمان، بل هي تصف معاناة الواقع وتطلعات المستقبل بأبلغ وصف وأدقه، لا وقت للتعبير عن كل دهشة بكل خبر جديد، فليندهش كل منا كل دهشاته بعد الفراق الذي سيحدث بعد دقيقة أو اثنتين.
لابد أن نأكل ونشرب ونحتسي القهوة ونتجاذب أطراف الحديث ونمدح ونذم ونؤكد على رغبتنا بالزواج من الحسناوات ونمر على أهم عشر ذكريات في حياتنا ونعبر عن شوقنا والكثير غير ذلك خلال وقت محدود في سابق العهد لم يكن ليكفي للتحية وحدها.
تكرار الذكريات يكاد يتضمن سؤالا عن استمرار مشاعرها، "أتذكر عندما كنا سعداء يوم كذا وكذا" ويحدق القائل بفراسة في شريك الذكرى آملا أن يقره على ذلك فيطمئن أن عهد الشعور على حاله.
رد الله أيام بسط الزمان حينما كنا لا نحتاج إلى الذكريات.
تعليقات
إرسال تعليق