قبيلة الفقهاء والأدباء والظرفاء
يدندن معشر الأطباء بكل سخف وسذاجة أن الإنسان يولد مرة واحدة فقط! وهذا قول لا يصدر إلا عن أعور لا يرى إلا القشور.
ولو أردت تعريف الإنسان تعريفًا لقلت أنه: مخلوق متعدد الحيوات.
ولكل واحدة منها ولادة ووفاة، وهذا الموضوع مما يستحق أن يطال فيه النفس لاستخراج درره ويواقيته.
ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.
منذ ولادتي - في حياة من حيواتي - وجدتني نهمًا لاقتناء الكتب، أتكلف في ذلك أشد الصعوبات رغم عسر الظروف مادّيّها وغيره، فمعارض الكتاب كانت عندي عيدًا بحق! يسبقها ما يسبق العيد من التجهز والاهتمام لأمر المال، وفيها نلتقي بالأحبة والأصحاب، وبعدها نفرح بما عدنا به ونحزن لمن فارقناه.
ثم زاد الأمر إلى السفر أسفارا محلية قصيرة وأخرى خارجية طويلة لاقتناء ما لذ وطاب من الكتب، وأخيرا على مر السنين وبعد كل هذا تكونت عندي مكتبة جيدة لطيفة، فيها تنوع لا بأس به، ومختارات في شتى العلوم والحمدلله.
من يقرأ إلى هنا سيتساءل أي علم حصّله كاتب هذه السطور بعدما جمع وأوعى؟ وفي أي ضروب العلم ألف ودرس؟ والحقيقة المرّة أنني خالِ الوفاض حقا لا تواضعا باردا، لم أقرأ ربع ما اقتنيت، ولم أحط بربع ما قرأت.
أبعد كل هذا تبين أنك يا كاتب هذه السطور مجرد مدمنٍ لا يجيد كبح جماح نفسه؟
أما هذه الدعوى فلا رد عندي عليها، ولكن علّني أريكم ما أرى، وأكشف لكم سر علاقتي بهذه المكتبة.
الكتب في المكتبة عندي حالها حال اللَّبِن، واحدة منها تفيد ما فيها لا غير، ولكنّ اجتماعها يحيلها منزلًا أسكن إليه.
المكتبة عندي ملاذ واسع إن ضاقت الدنيا، وموطن هادئ إن هاج الناس، أمان وسط القلق، وسكون وسط الصخب، خير وسط الشر... وهكذا.
زد عليها ما فيها من الخيرات والدرر، كأنني جالس وسط قبيلة من العلماء والأدباء والظرفاء، في أوقات يشاكس بعضهم بعضا، وفي أوقات أخرى يتفقون في هدوء، لحظات أتسامر مع ذوي السمر - كحالي الآن وسط كتب الأدب باحثا عما يطرب-، وفي غيرها أجلس بين يدي الفخر الرازي والقاضي البيضاوي والعارف ابن عجيبة طالبا تفسير آية، وقد تخطر ببالي مسألة كلامية أراجع فيها متكلمي الأمة متعللا بشفاء براهينهم.
وقد تشتهي النفس سماع الكل في شأن واحد، أستنطق فيها الأدباء ثم أسمع رد الفقهاء خاتما بالسادة الصوفية، لأعلم اتساع الفهوم والألسن.
شأن المكتبة ليس درسا يدرس، ولا شيخا يطلب، بل هو سياحة بين أساطين الفنون والعلوم.
لكل وارد فيها ما يروي الغليل ويشفي العليل.
ومناسبة هذا المكتوب تحرير مكتبتي من حبس أصابها لعدة سنين، خلالها فقدت فوائدها وعدمت عوائدها وتعطشت لشواهدها، وهذا ما أسهر الصب الكاتب وإن دعاه هذا للتندم صباح الغد.
كُتب وسط مجلس يشاكس فيه الأدباء الفقهاء في حكم تقبيل المحبوب حال الوداع.
تعليقات
إرسال تعليق