سؤال الحزن

أما الحزن فإنه من أصدق المشاعر، ولعلي أعجز عن تبيان معنى الصدق هنا بشكل فلسفي، ولكنني سأنثر ما لدي بين أيديكم لعل في ذلك جوابا كافيا.

أجد الحزن في الفن بكل أضرابه سهل المحاكاة، لا يحتاج لكثير تكلف، ففي الموسيقى تجد المقطوعات المُشعرة بالحزن -خلق الشعور في المتلقي عنوة هو غاية الفن عندي- تسود على غيرها، ويتسرب فيها الشعور بالحزن بين نغماتها إلى المتلقي بسلاسة رهيبة!

مقطوعات شوبان الحالمة ووتريات باربر ومقطوعة الرحلة لمارك إليياهو وبالتأكيد مون لايت سوناتا لبيتهوڤن، وغيرها الكثير والكثير والكثير...

وفي أغاني كوكب الشرق أم كلثوم وحدها ما يؤكد أصالة الحزن واشتقاق كل شيء منه، ففي أغانيها "حب إيه" و"لسى فاكر" من الحزن والأسى ما يذيب الجبال، وفي مبعث الآلام ومجلى الأحزان "الأطلال" ما يوقظ في القلب كل دواعي الحزن.  


ولسنا هنا بصدد استيعاب أحزان الفنون، وحسبنا في هذا المقام الإشارة وكفى.  


أما ذروة سنام الحزن هو ما جرى على ألسن أئمة المشاعر؛ الشعراء! ويلٌ لنا من الشعراء.

أما يكفيك أنهم اتخذوا من الحزن وحده بابا يلجون منه لغالب أشعارهم، فلا يكاد يبدأ أحدهم إلا ويذكر لك ما قاساه من آلام في سبيل الحب بما يعرف بفصل التشبيب، ففيه الأطلال تُبكى وتخاطب وتُرتجى، ثم زد على ذلك أن الرثاء على أيديهم أصبح منبع للأحزان يفيض الشاعر فيه حزنه ليُبكي معه كل من يسمعه.

أما تسمع امرؤ القيس يبتدئ تأريخه لنفسه بقوله:  
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ  
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

ودونك مرثية أبو ذؤيب الهذلي في أبنائه:  
فَالعَينُ بَعدَهُمُ كَأَنَّ حِداقَها  
سُمِلَت بشَوكٍ فَهِيَ عورٌ تَدمَعُ

وَلَقَد أَرى أَنَّ البُكاءَ سَفاهَةٌ  
وَلَسَوفَ يولَعُ بِالبُكا مِن يَفجَعُ

ونونية ابن زيدون التي قيل فيها: "من حفظها مات غريبا":  
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا  
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ  
حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا

أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا  
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا

فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا  
وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا

وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا  
فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا

كُنّا نَرى اليَأسَ تُسلينا عَوارِضُهُ  
وَقَد يَئِسنا فَما لِليَأسِ يُغرينا

بِنتُم وَبِنّا فَما اِبتَلَّت جَوانِحُنا  
شَوقاً إِلَيكُم وَلا جَفَّت مَآقينا

نَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائِرُنا  
يَقضي عَلَينا الأَسى لَولا تَأَسّينا

حالَت لِفَقدِكُمُ أَيّامُنا فَغَدَت  
سوداً وَكانَت بِكُم بيضاً لَيالينا

وغيرها من القصائد التي لا سبيل لحصرها.

...  


سؤال صدق الحزن، وخبرته بقلوب العباد أرقني وعشت معه سنينا بعد سنين، أجمع ما ارتبط به وأربط ما اجتمعت به.

ووصلت لبعض جوابٍ فذلكته أن الحزن المبتدئ بهبوط سيدنا آدم عليه السلام من الجنة لا ختام له إلا بما بدأ به.

أن دارنا هذه دار حزن، لا خلاص من الحزن فيها، وقد جمع الخافظ ابن أبي الدنيا ما روي في الحزن والهم في كتاب سماه: "كتاب الهم والحزن" وتجد أنه بدأه بما روي في وصف سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم أنه كان: "متواصل الأحزان..." وختمه بفصلين: هل في الدنيا راحة؟ وذكر من الآثار ما يدل على أن الراحة لا تكون إلا بعد دخول الجنة وحصول الرضا، وأعقبه بما يشير إلى أن الحزن في ذاته خير لصاحبه إن كان داعيه الآخرة.

إن الحزن يحصل بفوات مرغوب أو حصول مكروه، وما ارتبط منه بالدنيا كان مذموما مثل قوله تعالى: (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم) وفسرها أهل التفسير الأسى على ما فات من الدنيا والفرح بما يأتي منها.

وكلما زادت معرفة الإنسان بنفسه وبما حوله من الخلق وبخالقه سبحانه وتعالى يزداد حزنا، والحزن عند الإمام القشيري في رسالته: "الحزن يقبض القلب عن التفرق في أودية الغفلة"، ولا شك أن حزن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا كمالا، ولا يكون إلا على أمور شريفة منيفة.

وقد نهى الشرع الشريف عن الحزن في مواضع لا حصر لها ولا عد، وعند التتبع تجدها ذكرت في سياق الحزن على الدنيا وما فيها.

فالحزن في أصله انفعال في القلب لا فعل له، ثم يليه فعل الإنسان من ترك الواجب وفعل الممنوع.  
...  


خلاصة الأمر أن الإنسان ميال بطبعه الدنيوي إلى الحزن، فالظرف الإنساني يبعث على الحزن بلا ريب، فمبتدأ الأمر هبوط من الجنة إلى ظار الكبد، وحياة الإنسان سيرٌ ملء مصائبًا لما كانت عليه الدنيا من دار ابتلاء، وختام الأمر سؤال واختبار تعقبه السعادة الأبدية أو الشقاوة السرمدية.

وكل ما هنالك يذكر الإنسان بحزنه الأصيل المتجذر الذي لا ينفك عنه إلا بنفكاكه التام عن الدنيا واختباراتها.

وما السعادة الصادرة من هذه الدار إلا وهم زائل سرعان ما يتكشف ليظهر ما وراءه من حسرات، فما ارتبط بالباقي بقي وما ارتبط بالفاني فني.

وصدق الحزن أنه الأصل في هذه الدار، وكل ما غيره فهو شعور عارض لا استقرار له.

ماذا عنك عزيزي القارئ؟ هل ترى أن الحزن صادق؟ ولماذا؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

في الساعة الثالثة والثانية والثلاثين دقيقة صباحًا

مسرحية الحياة في هجوم العمالقة - الجزء الأول

حينما كنا لا نحتاج إلى الذكريات