جباذ يتحرر
في عالمي الصغير توجد الكثير من الشخصيات... و فيه حروب لا تحصى، لدرجة ان بعضها اكبر مما يستوعب العالم ،لماذا؟...
فيه المعاناة، الألم، الجوع، الحزن... و لكن بين الفينة و الاخرى تغمر العالم سعادة لا توصف، لماذا؟...
عالمي قصير العمر... بل طويل العمر... في الحقيقة لا أعلم يقينًا، و لكن ما أعلمه هو أنه من الممكن أن يكون ذَا امر أطول بكثير...
كل الشخصيات في عالمي إما حكماء و أبطال، أو شخصيات بدون أسماء مهمشة، لها دور واحد، لماذا؟...
في عالم- اوه، عفوًا، أعتذر، أشغلني الحديث عن عالمي عن الحديث عن نفسي، من أنا؟...
أنا بطل قصة اسمها "جباذ يتحرر"...
" تبدأ القصة بولادة طفل في قرية قمة التطور فيها هي عربة ذات عجلات يحمل عليها المحصول، مع ولادة الطفل جالب الشؤم الذي لم ينتظر حتى يكبر كي ينشره...
فقدت الام حياتها عند ولادة الطفل، أبوه كان يعيش قصة حب يغني بها الشعراء مع أمه، و لكن الابن "قتلها"...
مالاسم الذي أعطاه الحبيب لقاتل حبيبته؟ "جباذ" صنع جباذ من والده عدوًّا قبل ان يعرف حتى معنى الكلمة... عاش جباذ منبوذًا بسبب خطيئته التي سبقته، مع تعنيف والده له في كل آن زادت شخصية شراسة مع الكل، حتى مع من يمد له يد العون...
لم يكن يرى في العالم إلا الأبيض و الأسود، و في القرية كان كل شيء اسود بالنسبة له... كان ينتظر أن يشتد ساعده بفارغ الصبر، و هذا ما زياد من سرعة اشتداد ساعده، ما بلغ الثانية عشر حتى غادر القرية في جنح الليل، فكر أن يغادر صباحًا حتى يرى إن كان هناك من يهتم به كفاية حتى يحاول إيقافه... و لكنه قرر أن لن يخاطر بحريته من أجل إثبات شيء قد يؤلم أكثر إن عرف...
في طريقه، أوقفه قطاع طرق، و لكنه لم يكن يحمل معه أي شيء ذَا قيمة... إلا نفسه... أسروه و حاول المقاومة، و لكن الأمل أن الحياة قد تكون أجمل منعه من أن يزيد في المقاومة، و بهذا بدأت قصة جباذ العبد...
بيع جباذ لمالك مزرعة مسن اسمه جشش، غليظ الطباع، قذر اللسان، عنيف الطبع، كان يتفنن في تعذيب الصبيان و هو يقول: "ازرع في العبيد الرعب و هم صغار، يهابوك و هم كبار!"
كان جباذ يتساءل من أين لهذا المسن الأمل في طيلة العمر حتى يخطط للسنين القادمة، و لكن ما إن يبدأ بالتساؤل حتى يستيقظ بسوط الحقيقة القاسي، و بذلك أعني سوط المسن على ظهر جباذ...
كانت حياة جباذ خالية من كل أمل، لأنه أيقن حقًّا أنه جالب للتعاسة، أو أن فوقه غيمة سوداء تحجب عنه السعادة... و بدون الأمل لم توجد معاناة غير المعاناة الجسدية التي كانت تقل كلما كبر المسن و جباذ...
كان لجشش ثلاثة أبناء، أكبرهم كان يعمل مع شرطة المدينة و أوسطهم كان تاجرًا مرموقًا في مدينة أخرى، و أصغرهم كان يعمل في المزرعة مع والده... مما رأى جباذ علم أن طاعة الابن الأكبر و الأصغر لوالدهما كانت طمعًا في المزرعة بعد موته، أما الأوسط و يا عجبًا! فكان يبدو عليه أنه يحب أباه صدقًا... لدرجة أن جباذ أحس بذلك الحب بين الأب و ابنه دون أن يعرف يقينًا ماهو الحب أساسًا!
مرت السنين و الأيام... جباذ الان في السادسة عشر تقريبًا من عمره، اما جشش فكان مسنًّا، هو مسنٌ منذ عرفه جباذ، و لكنه كان أكثر عجزًا من يوم عرفه، مع ذلك كان ما يزال غليظًا...
كان أكبر أبنائه و الأصغر في نزاع دائم في حقوق الأرض، كانت تلك هي تسلية العبيد الوحيدة، تبادل الحكايا، التسلية التي لم يكن لجباذ مكان فيها لأنه جالب للتعاسة ولا أحد يحب جالب التعاسة.
بعد يوم عملٍ مرهق ذهب جباذ إلى فراشه، ليفاجأ بأصوات صراخ من جهة منزل جشش و أصغر أبنائه، هرع العبيد ليروا مالأمر، أما جباذ فآثر النوم حفاظًا على طاقته التي سيستخدمها الْيَوْمَ التالي في المزرعة، نام جباذ متجاهلاً أصوات الصراخ...
ليستيقظ لأكبر أبناء جشش صارخًا في وجهه: "لماذا قتلتهم؟! أبي و أخي الأصغر الحبيبين! أيها المجرم! اقبضوا عليه، فهو قائد العبيد في قتلهم لعائلتي!" قالها و في وجهه ضحكة إنتصار تكاد تصير قهقهة لو لم يتدارك نفسه...
في زنزانة مظلمة، شديدة البرودة، رطبة، ذات أرضية حجرية قاسية جلس جباذ في صمته المعتاد... "سأقتل؟" همس جباذ لنفسه...
"لماذا؟ مالذي فعلت؟" قال أحدهم من زنزانة مجاورة، "لا شيء، عدت من المزرعة بعد ان انتهيت من العمل و نمت، و استيقظت على ابن جشش يقول انني قتلت جشش و اخاه الأصغر"
"هذا يعني انه ضحى بك بعد أن قتلهم، أو أرسل من يقتلهم... نعم... ستقتل يا هذا"
عاد جباذ يغوص في صمته... مر يوم... يومان... أسبوع، لم يأتِ أي خبر في مقتل جباذ...
"يبدو أن حتى الموت يهرب من تعاستي" قال جباذ لنفسه
بعد مرور شهرين من سجن جباذ جاء جندي مسرعًا و أخذ جباذ معه في عجالة إلى مأمور السجن، "جباذ؟" قال المأمور بصوت مملوء بالكبر...
"نعم أنا جباذ"
"هل تريد أن تعيش؟"
توقف جباذ للتفكير، و لكنه فوجئ بفمه قائلاً: "نعم!" بكل حماسة
"جيد... إذن حارب من أجل الوطن، و إذا عدت من ساحة المعركة منتصرًا ستكون رجلًا حُرًا!"
"حُرًا؟..." قال جباذ قبل أن يحس بدفئ مفاجئ على وجنتيه، ذرفت عيناه دموعًا بحرارة غير مسبوقة...
كان جباذ يعتقد انه فقد الأمل... و لكنه بدأ يتساءل إن كان يمكن للأمل أن يفقد حتى... أم إن أكثر ما يستطيع المرء فعله، هو دفن الأمل عميقًا حيث لا يرى النور...
كانت بنية جباذ الجسدية ممتازة للقتال، و لكن كانت تنقصه الخبرة، تدرب هو و كم شخصًا آخر بحالته لمدة شهر ثم أرسلوا للمعركة... كان جباذ يتساءل عما هو مصيره في المعركة... و إن كان سيَقتُل أم سيُقتَل...
على ساحة المعركة بسيف مهترئ يقف جباذ في أواخر صفوف الجنود، و مع نوبة من الصراخ تحرك الجيشان تجاه بعضهما!
انطلق جباذ على اول جندي من جيش الخصم يراه، وجه إليه ضربة بكل قوته، و لكن العدو تفاداها بكل سهولة و وقف على جباذ شاهرًا سيفه تجاهه، ليخترق صدره سيفًا يلقي به جثة هامدة، منقذًا جباذ، كل ذُلك حصل في ثواني معدودة...
"أيها الجندي! هذه ساحة المعركة! احمل سيفك و قاتل بكل بسالة!" قال الجندي الذي أنقذه...
نهض جباذ باحثًا عن هدف له وسط تلك المعمعة، دخل جباذ وسط المعركة، ليضرب هذا و يركل ذاك، و لكنه لم يقتل أحدًا، و بعد مضي البعض من الوقت، لاحظ ان جيش دولته كان يهزم بوضوح و لكن لا خيار آخر غير الاستمرار، استفرد جباذ بجندي في أطراف المعركة و تبادلا بعض الضربات، نجح جباذ في إبعاد سلاح عدوه عن يده، و رفع سيفه فوق عدوه...
و لكنه لم يستطيع أخذ حياة عدوه... استغل عدوه لحظة التردد ليستل خنجرًا و يطعن به جباذ في جنبه!
جباذ ركل عدوه بكل ما لديه من قوه... أحس جباذ بالموت، و عادة غريزة النجاة بالعمل... هرب جباذ... و هرب... حتى سقط في نهر بارد، أنساه جراحه، و أفقده وعيه...
استيقظ جباذ و هو يحس بدفء لم يعرفه من قبل، كان في كوخ صغير، و كانت امرأة مسنة ذات وجه حنون تنظر إليه بعطف...
"لا تتحرك كثيرًا يا بني، فجراحك لم تلتئم بعد"
عاد جباذ الى فقدان الوعي... و لكن هذه المره عن طريق النوم في الدفء...
استيقظ جباذ مرة أخرى ليرى أمامه فتاة في عمره تقريبًا، ذات شعرٍ أسود طويل، و ملامح هادئة تبعث بالسلام...
"ما جباذ هو اسمك أنا ؟- أقصد، أنا جباذ، ماسمك؟" قال جباذ و هو في قمة الارتباك...
"اسمي هو رجاء" ردت الفتاة بابتسامة خفيفة
"لو كانت معاناتي كلها لأصل لهذه اللحظة فإني راضي بذلك" قال جباذ في نفسه
اتخذ جباذ الكوخ ملجأ له لفترة من الزمن، ساعدهم فيها في الزراعة و بدأ ينسى الماضي، و صار رجاءه "رجاء" كانت ابتسامتها كفيلة بإعادة نشاطه بعد طول عمل... تحول الملجأ إلى وطن و مستقر... مرت سنة و أخرى و هاهو جباذ رجل العشرين سنةً الان...
قرر جباذ أنه لا مجال للتسويف بعد الان، سيطلب يد رجاء للزواج في أقرب فرصة...
طلبت رجاء من جباذ أن يرافقها للمدينة القريبة، كالعادة، وافق جباذ بسعادة...
بينما كانت رجاء تتفاوض مع البائع ليقلل من السعر، نادى أحدهم قائلًا:"جباذ؟ أهذا أنت؟!"
"من؟" قال جباذ و هو ينظر إلى المنادي... فإذا به إبن جشش الأوسط، سالف، "أيها الشرطة! هذا الرجل قتل والدي و اخي و هرب!" صرخ سالف بكل حرقة و غضب!
سحب جباذ رجاء بيدها و انطلق هاربًا من المدينة!
"ليس الان! تركت الماضي وراءي! لماذا لحق بي و كيف؟!" همهم جباذ لنفسه في غضب و أسى...
مساء ذلك اليوم طلب جباذ من رجاء و أمها أن يهربوا معه، و لكن رجاء قالت إن أمها لن تقوى على السفر، و أنه يجب أن يبقى و يوضح للناس ما حصل، فهروبه يعني الاعتراف بالذنب...
بعد طول جدال، قرر جباذ أنه لن يهرب، و أنه سيذهب إلى سالف غدًا صباحًا و يخبره بالحقيقة...
"ا-اهرب ي-يا جباذ..." كان ذلك الصوت المضطرب المليء بالألم هو ما أيقظ جباذ في سكون الليل...
رجاء... أمامه مضرجة بالدماء، سعادته و رجاءه و روحه تنزف أمامه... كان ما يزال يتمنى أنه سيستيقظ ليجد أنه مجرد كابوس... و لكن الكابوس طال...
"كما قتلت والدي الحبيب... ستذوق ألمي..." قال سالف و معه رجاله... من الصدمة فقد جباذ نفسه لأيام ليجد نفسه في السجن منتظرًا إعدامه...". "
هنا تنتهي "القصة"
و لكن جباذ في السجن تساءل عن سبب ألمه و تعاسته الدائمة و عرف الإجابة... إنه كاتب القصة الكئيب... الذي يريد إرضاء ذاته المزرية بعناء خيالي... و أراد أن يحس بالسلطة و العظمة التي فقدها في حياته... تبا لك...
بعد ذلك اليوم هرب جباذ و لا أحد يعلم أين أو كيف، و الحقيقة أن الكاتب ترك القصة مفتوحة ذات ليلة، و في تلك الليلة هربت إلى عالمكم، أنا جباذ، و تركت ورائي هذه السطور القليلة ليعلم كاتبي عن ألمي الذي تسبب به حتى يحس بالعظمة... و بهذه السطور يُجاب عن كل الأسئلة
تعليقات
إرسال تعليق