فصول الحرب: عندما يجود الصمت بالجواب
معركة الجندي لا تنتهي بإنتهاء الحرب عادة... نحن لا نغادر منازلنا لأيام أو أسابيع، نحن نغادر لأشهر... أو في حالتي أنا لسنين...
غادرت المنزل قبل أربع سنوات، و لازلت أتذكر تلك اللحظات بوضوح تام، طبعا لا أذكر كل شيء، و لكن أذكر "وداعي" لوالداي بدقة شديدة... أمي كانت معارضة لذلك لآخر لحظة...
أمي امرأة حنونة جدا، و تحبني كثيرا، و لكن حبها و حنانها منعني من جزء كبير من الحياة... خاصة بما اني الابن الوحيد... أما أبي فهو رجل نبيل و حازم، و لكن حزمه يذوب عند وجود أمي... (أتساءل كثيرا عما جمعهما...) أبي دائما ما يوافق آراء أمي، حتى في رفضها لي من المضي في حياتي...
كنت في الثامنة عشر، و لك أرى من هذه الدنيا إلا قريتنا الصغيرة، و البلدة المجاورة، بينما نحن في البلدة نتسوق و إذا بضابط من الجيش ينادي معلنا عن فرصة للإلتحاق بالجيش، بشروط كلها متوفرة فيّ، و براتب شهري مجزي، يعادل دخل ثلاث أسر أو أكثر من القرية!
فرصة ذهبية، و بها سأخرج أخيرا إلى العالم! و لكن أبي لاحظ بريق عينيّ و شد الإمساك على يدي و قال: "بني... ليس كل ما نظنه بابًا للحرية هو كذلك..."
و في تلك الليلة أعلنت عن رغبتي بالإلتحاق بالجيش، و بكت أمي بكاءً لم أره من قبل... أما أبي فكاد يبكي، ليس على قراري، بل على بكاء أمي، وقف أبي أمامي و قال: "يا بني... سالم، أترضى أن تترك أمك تبكي على فراقك ليل نهار؟ أعلم ما يجول في خاطرك، فأنت شاب، المال، و السفر، و الحرية هي أكثر ما ترجوه، و لكن سيأتي يوما ما تحصل عليها و أنت لها غير راغب، اصبر قليلا، فنهاية الصبر محمودة"...
كنت أعلم أن أبي لن يسمح لي بالمغادرة... فقررت أن أسايره، ثم أغادر في يوم ذهاب الضابط مع المتقدمين، حتى لا تكون هنالك فرصة للعودة...
في فجر ذلك اليوم، غادرت بعد أن جمعت بعض الحاجيات في حقيبتي، و غادرت مشيا إلى البلدة، و انتهيت من الإجراءات للتقديم، ثم ركبت في السفينة... لأرى ذلك المنظر الذي يعاد و يعاد و يعاد في ذاكرتي إلى مالا نهاية... أمي و أبي لحقوا بي على الحصان، ليجدوني مغادرا في السفينة... و سقطت أمي على الأرض و هي تجهش بالبكاء المرير و تنادي بأعلى صوتها باسمي... و نظرة أبي... نظرة أبي التي اخترقت فؤادي، كانت نظرة مؤلمة كَسهمٍ محترقٍ تجاهل جسدي ليتوقف أخيرا في عمق روحي...
...
بعدها بسنتين... كنت قد رأيت في الجبهات ما قد يفقد العاقل عقله.
الموت، و الألم، و الحسرة، و الخسارة.
و أنا في أحد الجبهات، بداية كل أسبوع يأتي ساعي البريد بالرسائل، ليهب الكل إليه مترقبين.
فخلف تلك الرسائل توجد أسباب قدومهم إلى هذه الحرب و تلك، أما أنا فالسبب أمامي، و هو واضح جدا، لا شأن لي بالماضي، ليس لأنني أكرهه لتلك الدرجة، و لكن لأنني أضعف من أن أعود إليه.
"سالم، هنالك رسالة لك" قال لي أحد الجنود.
"مستحيل، دعني أرى" كنت أعرف هذا الخط، بل أكاد لا اعرف غيره، فهو خط أبي الذي علمني القراءة!
فتحت الرسالة، و نظرة أبي الأخيرة ما زالت تحدق بي...
كان مكتوب فيها:
"سالم... لا أعلم إن كنت ما زلت تتذكر وجودنا أم لا.
و لكنني وعدت أمك أن أخبرك و أنا لم أخلف لأمك وعدًا إلا واحدا يبدو أنني سأخلفه... أمك ماتت...
و آخر ما طلبت مني أن أخبرك، و أن أقول لك أن تزور مرقدها الأخير...
لا أعلم كيف استطعت فعل ذلك يا سالم... كل ما أرادته هو أن تراك سعيدا، و لكنك أبيت إلا أن ترمي بنفسك بعيدا عنها في دوامة التعاسة."
بعدما قرأت الرسالة، خرجت بهدوء من الخيمة، و مشيت بعيدا عنها و تأملت في الشاطئ لأجد نفسي أعيد مشهد الوداع... و لكنني في هذه المرة تقمصت دور أمي.
أردت أن أذهب في ذلك اليوم، و لكنني كنت مرابطا على الجبهة.
أو هذا ما أقنعت نفسي به على الأقل... لسنتين كاملة، و أنا أختلق الأعذار، هربا من تلك النظرة الحارقة...
و لكن بعد سنتين، ها أنا ذاهب لوداع أمي، و للعودة لأبي...
...
وصلت للقرية، و كنت أجد نفسي أمشي في الإتجاه المعاكس في كل لحظة يشرد فيها ذهني...
وقفت الأمام أمام المزرعة التي لا تبدو كمزرعتنا، هي مهملة جدا. ثم أكملت المشي إلى أن وصلت إلى المنزل لأرى أنه في حال أسوأ من المزرعة، ما عدا جهة الحديقة التي كانت تجلس فيها أمي دائما و بجانبها أبي، حالة الحديقة ممتازة جدا.
رأيت شخصا جالسا على الكرسي الذي كان يجلس فيه أبي بجانب أمي، إنه أبي.
كان يحدق في شيء في الحديقة بعمق لدرجة أنه لم ينتبه إلي.
"أبي..." قلت بصوت خافت متذبذب
التفت إلي و مرت على وجهه دفعة من التعبيرات و الإنفعالات ثم نهض صامتا مسرعا إلي ثم عانقني بقوة...
"لماذا؟... كانت تحبك..." قال والدي بصوت لم أكد أسمعه.
لم يكن لدي ما أقول، بالأصح لم أستطع قول شيء، مع أنني تخيلت هذا المشهد مرارا و تكرارا.
الآن و أنا انظر إليه عن قرب، استغرب كيف عرفته... وجهه شاحب و مهمل، و أعينه تبدو خاوية من الحياة.
أخذ بيدي و قال: "تعال إلى أمك، أطالت إنتظارك..."
و أخذني إلى حيث ما كان يحدق، قبر أمي... وسط الحديقة التي أحبتها.
جثوت على قبرها أبكي، و أبكي، و أبكي...
أما أبي فقد دخل إلى المنزل، ليعد طعام العشاء.
كان أبي قليل الحديث جدا، أقل بكثير من السابق، و كان بين الفترة و الأخرى ينظر إلي بنظرة غريبة، فيها الحزن و الغضب.
كانت حالته الصحية سيئة جدا، لم يكن يأكل كما يجب، و كان يطيل الجلوس في الحديقة حتى ينام هناك احيانا... كان يتحدث مع أمي كثيرا، مع قبرها أقصد...
"هل سامحني أبي؟ هل ذهب غضبه؟ هل أستحق أن يسامحني؟ هل أستحق أن يعاملني بدون كراهية؟ هل كان من الأفضل لو مت في الجبهة؟" أسألة كثيرة كانت تدور في رأسي، لم أستطع الإجابة عن أي منها بصدق... و لم أحاول أن أسأل أبي عنها طبعا..
عاد كل شيء إلى طبيعته... ظاهريا على الأقل، و لكننا كنا نتعامل مع بعضنا كأننا أغراب... ذلك الحال أهون من التعامل بكراهية و غضب... "سيعود كل شيء كما كان" هذا ما كنت أحاول أن اقنع نفسي به، و لكنني كنت ألاحظ أن أبي لم يكن يعاملني كما كان سابقا، في كل شيء، حتى نبرة الحديث.
هل ألومه؟ لا أعلم، في النهاية أنا من قتل أحب الناس له، أنا من تركها تبكي حتى انفطر فؤادها و ماتت حزينة...
...
بعد مضي ثلاثة أشهر من عودتي، استيقظت صباحا كالعادة، و أحلام الماضي تؤرقني... لم أجد أبي في غرفته، و لم أجده في المنزل كله... دائم ما يكون نائما في هذا الوقت.
خرجت أبحث عنه لأجده في الحديقة، مستلقي على جنبه بجوار قبر أمي.
"أبي" ناديته، و لكنه لم يرد اقتربت منه، فوجدته يتنفس بثقل!
حاولت حمله لإيصاله إلى الطبيب فأمسك بيدي و قال بصعوبة: " لا... اتركني... معها هنا..."
"انت في خطر إن لم اوصلك إلى الطبيب! قد تموت يا أبي!"
"أموت... نعم... تكفيني سنتين...من الحياة بعد موت... حياتي.."
جال في خاطري لحظتهاالكثير من الأفكار، أولها "هل سامحني؟"
"حياة... حياتي... أنا آسف، لقد حاولت صدقا ألا أخلف ما وعدتك به... و لكنني لا أستطيع... أحببتك كثيرا... لا... أستطيع... حاولت بكل ما...أملك..." قال أبي و عيناه تذرف الدموع و هو ينظر إلى قبر امي
"أبي... أبي... هل تسامحني؟" سألته دون أن أشعر، لم أرد أن أسأله!
نظر إليّ أبي نظرة أخف حدة من سابقتها، و لكنها أعظم ألما...
"سامحني يا أبي! كانت غلطة، غلطة طيش صغيرة! لم أرد أن يحدث أي من هذا!" صرخت و العبرة تخنقني
لم يبعد أبي عينيه عني، كان يسمعني بوضوح، و لكن صمت عندما أردته أن يتكلم... صمت...
و هكذا... مات أبي بجوار أمي و هو يحدق النظر في عينيّ صامتا...
الحرب كانت أهون...
تعليقات
إرسال تعليق