المشاركات

عرض المشاركات من أكتوبر, ٢٠٢٤

الاكتفاء بإبصار المركب كالغفلة عنه

بصير، اسمي ولعل فيه وصفي كذلك. أستاذ جامعي مرموق، محبوب بين أقراني وطلابي على السواء، أدرس الفلسفة، تحديدا ما يعرف حديثا بفلسفة اليقظة الذهنية، هراء يتعلق بالوعي بالنفس واللحظة وما إلى ذلك. والد لثلاثة أبناء وبنت، كل منهم خير من أخيه، الأكبر طبيب، والثاني يدرس الهندسة، والثالث وأخته توأم كأنهما الشمس والقمر، الفتى هو الشمس وأخته الخجولة هي القمر. بالجملة فإنني رجل جيد، لا ينكر ذلك أحد إطلاقا، سوى شخص واحد... أنا. أنا أعلم أنني لست جيدا، وكل يوم يمر ويظل الناس على ظنهم بأني جيد يزيد من ابتعادي عن ذلك، أنا شرير وسيء بشكل لا يخطر على البال! منذ ثلاثين عاما ولي عادة لا أتخلف عنها، وهي أنني أختلس صباح السبت من فجره إلى ظهره، أمضيه وحيدا بعيدا عن أعين من يعرفني من الناس وأسماعهم، تظن زوجتي وأبنائي أنني أخطط وقتها للمستقبل وأرسم تفاصيل حياتنا، وهذه كذبة أخرى صدقها الناس وزاد بها شري. مالذي أفعله في هذه الفترة؟ عمل الخير الوحيد الذي أفعله في حياتي وهو أنني أدون حقيقتي هذه في هذه المذكرة، علني في يوم ما أتشجع لأنشرها بين الناس، وإن كنت أعلم أن شري يمنعني من ذلك، فأنا شرير جدا علي اللعنات! بداية

ما أبعد ما بين الجانب والفي

عند دخول الأسوار -وهي الذكرى الأولى لكل منّا- نعطى بطاقة تميز المرء عن غيره، فيها نقوش وألوان لا يعلم أحد سرّها، وأغلبها ملطخ هنا وهناك ببقع سوداء تغطي ما تحتها، وأولها اسم يتصدر البطاقة. دوريان، اسمي، أو على الأقل الاسم المكتوب في بطاقتي. العالم داخل الأسوار أكبر من أن يحيط به أحدنا، فيه كل ما تشتهيه الأنفس وفيه من الكنوز النفيس والأنفس. أول أمري أخذت أتأمل بطاقتي وأتحسسها بأطراف أصابعي، فيها نقوش بأحجام متفاوتة، وألوان متعددة، تغطيها بقع سوداء في بعض المواطن، وفي مواطن أخرى طبقة خفيفة من السواد، شعرت يقينا بأهميتها وكأنها قطعة مني، كلما استقرت عيني على لون في بطاقتي وجدته كسر بلون آخر، بطاقة ملونة لا لون غالب فيها. ضربت في أرض ما بين الأسوار باحثًا عن شيء ما، أي شيء؟ لا أعلم ولكنني أعتقد أنني لو رأيته لعرفته. لمحت في الأفق مدينة عامرة، تكاد تنادي من حولها إليها بسلاسل الرغبة أو الرهبة. خلال سعيي لها وجدت مجموعة من الناس ما إن اقتربت منهم وجدت بطاقتي تسحبني إليهم، جلست إليهم فإذا بنا نستحسن صحبة بعضنا البعض، إلا همّاس، لم نتجانس وبطاقتي كانت تبعدني عن بطاقته ذات اللون البنفسجي الداكن.

تعدد الأنوات والنفوس

في معرض ضربت له كبود الإبل، وامتطت لبلوغه صهوات الجياد، الكل يفديه بشيء ويقرب له قربانه، ففادٍ بماله وفادٍ بحوله وفادٍ بوقته وفادٍ بصبره. أقبل رجل تائه وسط الفنون والعلوم، واقف بباب كل منها وقفة متسول يطلب ما يقيم صلبه، حده أعتاب الأبواب، ذلك أنه كلما رأى بابًا ما إن يلجه حتى يفتن بما بعده، ثم من باب إلى آخر يقضي عمره. وتعدد الأبواب أدى لتعدد المطالب، ولكل مطلب طالب، فكان صديقنا يطلب مطالب الأصحاب، فيوم هو فيلسوف تنويري، ويليه هو متكلم سنّي، ثم سالك صوفي، وعالم اجتماعي، وفقيه حنفي، وباحث منطقي، وأديب تقليدي، ومتخصص تربوي. ... هل صاحبنا المرآتي مرآتي فعلا؟ يقول مجاوبا في اقتضاب: نعم، ولكن عكس ما تتصور، فلما كان في نفسه شخوص لا أول لها ولا آخر، وكان طبعه التوسع لا التعمق كان له في كل ميدان أصحاب يشيرونه ويستشيرون. وكما قيل: كل يعرف مقامه فلا يعدوه، وصاحبنا قد عرف مقام نفسه فوجد أنه [=أي مقامه] برزخ بين العلوم، ذو ميلات هنا وهناك، حده أن يرتفع عن الجهل المطلق في العلم. خير ما يسديه الإنسان لنفسه أن يختار لكل نفس من أنفسه صاحبا، فصاحب يقترح عليه معنى الحياة في العالم الحديث لعبدالله الوهيب