المشاركات

عرض المشاركات من مارس, 2025

محراب الروح المتعبة

أيتها الروح المتعبة، حُقّ لك التعب، حقًّا لا يسلب، وكيف يسلب وهو بادٍ في زفراتك المبحوحة، وأناتك المكتومة. ولكن مثل تعبك لا يكفيه الاعتراف به ليزول، أو حتى ليخف، هو تعب وجودي يقض المضاجع ويبعد عن المهاجع. البكاء لا يجدي، فالبكاء متعبٍ، والمتعبُ لا يطلب زيادة تعبه، رغم ذلك فإن المرء تواق أن يخلو في محراب الروح، متأدبا في حضرة التعب، كأنه داخل على شيخه المسن الذي فقد بصره أو كاد، إلا أن بصيرته تتوقد. إن دخلت يلتفت جهتك في بطء متبعها حركة رأس خفيفة، ثم إطراقٌ عنك وصدره يعلو ويدنو بشهيق وزفير يجر أذيال الكون في بسطه وقبضه، متكئا على جدار متهالك، ولكنه مقارنة بجسده العليل سور قلعة مكين. بصيرته تغنيك عن عرض حاجتك وبسط حكايتك، هو سكوت طويل، يستجمع فيه المسن ما بقي له من حيلة لينطق لك برمز تقضي شهورك في حله، ثم تليها سنين في العمل به. يقطع الصمت بالتفاتة منه إليك، محدقا فيك شزرا، هو عليم بما تحمله من أوزار، وبما بطن فيك من خفايا وأسرار، بصوت خفيض وسط أنفاسه الصاخبة، يقول في نفس واحد كأن الموت وراءه: فقر يغنيك خير من غنى يفقرك... وخير منه غنى يغنيك. ثم يصرف بصره عنك ليعيد تحديقه إلى السماء بعين...

كاليبسو: الخلود زوال، والفناء بقاء

في ملحمة الأوديسة، والتي تحكي قصة عودة بطل القصة أوديسيوس إلى موطنه بعد حرب طروادة، ورحلة العودة هذه لا تقل ملحمية عن المعركة ذاتها، في أحد منعطفاتها يتيه البطل في البحر لتقذف به الأمواج الغاضبة إلى جزيرة تقطنها حورية البحر كاليبسو. كاليبسو عشقت أوديسيوس أيما عشق، وحاولت إغواءه وإغراءه بكل سبيل عرفته طلبا لمكثه عندها ونسيانه رحلته، وعدته بالخلود وحياة لا عناء فيها، ولكنه صمد أمام كل هذه الإغراءات مستحضرا وجهته، العودة إلى الوطن، وأن ما هو فيه ليس سوى محطة لا يجب أن تعطى أكثر من ذلك. بعد إقامته عندها لسبع سنين عاجزا عن المغادرة واستكمال الرحلة، اقتنعت كاليبسو أخيرا بتدخلات خارجية بضرورة رحيله فساعدته للخروج من الجزيرة. ... كاليبسو تمثل فتنة الزائلات الحاجبة عن الحقائق الثابتة، تلك الفتنة لا تنكر الحقيقة بالضرورة، بل توهنها وتحجب عنها، وهم حسد الحقيقة فأراد محلها. تلك الأوهام لا تفرض نفسها فرضا، بل تدعو لمن يجيب لها، ولا تكتفي غالبا بالدعوة مرة واحدة، بل تلح مرة تلو الأخرى، من يدرك الحقيقة ويضعها نصب عينه لن يلتفت عنها، ولن يسمع إغواء الوهم حتى؛ فهو منشغل بسعي دؤوب إلى غاية هو بالغها. من...